في الأضواء
هوس التصوير .. خدم مطيعون في محراب «السيلفي»
لا يمكن تصور الحياة المعاصرة دون صور؛ فالصورة موجودة في كل مكان؛ إنها لا تكف عن التدفق والحضور في كل لحظة من لحظات حياتنا. ألم يقل أرسطو قديما "إن التفكير مستحيل دون صور"، ورولان بارت حديثا "إننا نعيش في حضارة الصورة"، وبينهما؛ تحديدا بداية القرن العشرين أكد آبل جانس أننا نعيش عصر الصورة.
يدفعنا ما سبق إلى تحوير المثل الصيني؛ فالصورة لم تعد تساوي ألف كلمة؛ كما قال حكماء الصين، بل صارت بمليون كلمة، وربما أكثر قليلا في زمننا الراهن.
أصبح المجتمع الإنساني مجتمعا تقوم الصورة بالوساطة خلاله في الأنشطة الإنسانية كافة، فحضور الصورة جارف في حياة الإنسان الحديث؛ إنها حاضرة في التربية والتعليم، في الأسواق والشوارع، وعبر وسائل الإعلام.. باختصار إن حياتنا أضحت مرتبطة الآن بالصورة على نحو لم يسبق له مثيل، إنها تحاصرنا من كل ناحية.
صحيح أن الصورة فرضت نفسها بقوة عمليا، فالتاريخ يحتفظ في سجلاته بصور فاق تأثيرها في الوعي البشري ملايين الكلمات وآلاف الجمل ومئات الخطب. وعلميا نذكر أن عالم التربية الأمريكي جيروم برونر أشار؛ في دراسة له متصلة بهذا الموضوع، إلى قدرة الناس على تذكر 10 في المائة فقط مما يسمعونه، و30 في المائة مما يقرأونه، في حين يصل تذكرهم لما يرونه أو يقومون به إلى 80 في المائة.
بتغيير زاوية النظر، تظهر سلبيات عدة تحجب تفاصيلها لغة الشكل البراقة واللامعة المرافقة لغزو الصورة. وقد تنبهت أسماء ثقيلة في عالم الفكر والثقافة مبكرا إلى هجوم الصورة، وحذرت منه بكشف متاهاته اللا متناهية. فالسوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو مثلا يتحدت عن توظيفات الصورة من خلال توجيهها لتزييف الوعي وإخفاء الحقيقة، واستغلالها بغرض الإعلاء من قيمة السطحي والمؤقت والعابر من الأمور على حساب الحقيقي والجوهري والثابت.
عالم الصورة إذن يعمل على تحويل الفرد إلى كائن سلبي مستقبِل لما يقدم له، أيا ما كان عليه من دقة أو تزييف، ومن ثم يصير كائنا مستهلكا للصور، وما ترتبط به هذه الأخيرة من عوالم خاصة بالدعاية والإعلان والترويج... وغير ذلك.
أعادت ثورة وسائل التواصل الاجتماعي "فيسبوك، إنستجرام، يوتوب..."، وتطور تكنولوجيا وسائل الاتصال "الهواتف الذكية والألواح والحواسيب...." إلى دوائر النقاش والتأمل، وإن بشكل تدريجي ومحتشم؛ موضوع الصورة وما يحفه من قضايا وإشكاليات، بعد أن تمكنت هذه الوسائل بنوعيها - الاتصال والتواصل - من استغلال الصورة لخدمة أهدافها وغاياتها؛ التجارية والاستهلاكية بالدرجة الأولى، أحسن استغلال من خلال استثمار تلك السلبيات لتحقيق أغراضها.
يصاب المرء بالذهول من الأرقام التي تعلن عنها إدارة شركات وسائل التواصل الاجتماعي من حين إلى آخر، فيما يخص ما يبثه المستخدمون على هذه المنصات في كل دقيقة وثانية من الزمن من معلومات، وما يتشاركونه من معارف، وما يكشفون عنه من خصوصية.
تحتل الصورة مواقع الصدارة في هذه المواد التي تعرض، خصوصا بعد بعث وإحياء ثقافة البورتري القديمة – مع تسجيل بعض الفوارق طبعا - في صيغة حديثة انتشرت سريعا أطلق عليها "السيلفي". فالأرقام تشير إلى أن ما يقارب 55 في المائة من صور جيل الألفية المنتشرة على مواقع التواصل التقطت بهذه الطريقة. أكثر من هذا، نجد أن موقع إنستجرام على سبيل المثال، يشهد نشر ما يزيد على ألف صورة "سيلفي" كل عشر ثوان.
يكفي هذا الرقم وحده دليلا لإزالة الشك في ذهن كل معترض على آراء وأقوال مفكرين كثر حيال هجوم الصورة العنيف على حياتنا المعاصرة. لا بل إن بعضا ممن كانوا في صف مناصرة الصورة في بداياتها لو أتيحت لهم فرصة مراجعة مواقفهم لما ترددوا في ذلك، بعد أن يقف الواحد منهم عند حجم الانحرافات التي تعرضت لها في مسارها منذ الظهور الأول إلى اليوم.
نقرأ في بحثنا عن جينالوجيا الصورة عند أرنهايم أنها ترتبط بما يسمى التفكير البصري، وهو "محاولة لفهم العالم من خلال لغة الشكل والصورة، والتفكير بالصورة يرتبط بالخيال، والخيال يرتبط بالمستقبل، والمستقبل ضروري لنمو الأمم والجماعات والأفراد، ضروري لخروجهم من أسر الواقع الإدراكي الضيق المحدود، لكنه المهم، إلى آفاق المستقبل الرحبة الأكثر حيوية والأكثر إنسانية".
لكن كثيرا مما ذكر هنا لم يعد متحققا اليوم، بعدما وظفت الصورة شر توظيف بالتركيز على سلبيات بشكل كبير، وحشد قصد خدمة أغراض وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها. لدرجة أصبحت لدينا صور؛ بحسب تعبير الفيلسوف جان بودريار، لا تمثل أصلا محددا، وذلك لأنها لا تمثل إلا نفسها.
قد لا نبالغ حين القول إن المسألة ببساطة تحولت إلى هوس، وفي بعض الحالات إدمان مرضي، لا يعي صاحبه خطورته من كثرة انغماسه فيه. ولنا من الوقائع والأحداث ما لا يتسع المقام بالتفصيل فيه، لتأكيد صحة هذه الافتراضات.
ألم تتحول الصورة من مجرد اقتناص لحظة في مسار زمني سائر ومنسكب قصد التأريخ والذكرى إلى إحدى خيرة الأدوات المستخدمة اليوم لصناعة وتوجيه الرأي العام، وأحيانا تغليطه ببث الأكاذيب على أنها حقائق يقينية... وكل هذا لم يعد بالشيء العسير على الصورة القيام به. إننا بتعبير أحدهم "خدم مطيعون في محراب الصورة".