ملفات خاصة
هؤلاء أسعد الناس في العالم .. ما السر يا ترى؟
ليون برخو: ما الذي جعل الفنلنديين يكونون أسعد الناس في العالم، حسب التقييم السنوي الذي تجريه الأمم المتحدة؟
قياس السعادة ليس بالأمر اليسير. ولن أدخل في خضم المعايير التي تستخدمها المنظمة الدولية لترتيب جدول تظهر فيه أكثر الشعوب سعادة في العالم وأقلها انشراحا واغتباطا.
ولن أعرج على المكانة التي تحتلها الدول العربية في هذا الجدول. سلم السعادة الذي تنشره الأمم المتحدة متوافر على الشبكة العنكبوتية، وفي إمكان القراء الكرام الرجوع إليه لمعرفة مكانة بلدانهم فيه.
ولكن ما يميز الجدول هذا هو أن الدول الإسكندنافية في الغالب تحتل أعلى المراتب فيه، وكان للنرويج قصب السبق حتى أزاحتها فنلندا عن عرشها العام الماضي، وتصبح بذلك أسعد بلد في المعمورة.
ونقلت الصحافة العالمية خبر تربع الشعب الفنلندي على قمة سلم السعادة في العالم. وكان كل تقرير تقريبا يحاول الوصول إلى السر أو الأكسير الذي جعل هذا البلد الذي تبلغ مساحته 338 ألف كيلومتر مربع ولا يتجاوز عدد سكانه 5.5 مليون نسمة أكثر دول العالم سعادة.
وفنلندا بلد يجاور السويد. اللغة السويدية هي اللغة الرسمية الثانية بعد الفنلندية ويتقنها الفنلنديون بطلاقة.
وقبل نحو ثلاثة عقود، كانت فنلندا بلدا فقيرا ومعوزا. وأجبر الفقر المدقع مئات الآلاف منهم إلى الهجرة إلى السويد للعمل في مصانعها ومعاملها التي كانت على أعتاب نهضة شاملة ومستديمة ـــ مستديمة لأنها لم تتوقف حتى يومنا هذا.
وفي غضون 30 عاما لم تلحق فنلندا الفقيرة والمتخلفة السويد بل بزتها في كثير من المضامير في الاقتصاد والصناعة حتى بلغت قيمة الإنتاج الوطني السنوي لديها لعام 2017 أكثر من 250 مليار دولار.
واليوم تتطلع السويد إلى النموذج الفنلندي كي تستقي منه في تطوير نظم التربية والتعليم فيها.
وها نحن اليوم نرى أيضا أن الشعب الفنلندي في تقدير الأمم المتحدة أكثر سعادة حتى من الشعب السويدي. فما السر يا ترى؟
الفنلنديون ربما أقل الشعوب الإسكندنافية تدينا وتمسكا بالمؤسسات الدينية، التي لم يعد لها أثر يذكر في تدبير أمور المجتمع، لا بل فقد تم إحجامها وصارت بمنزلة نقابات محلية أثرها محدود جدا حتى في المنتمين إليها.
بيد أن من أسباب السعادة لدى الفنلنديين قيم مثل الأمانة والصدق ومد يد العون عند الحاجة. الناس والمؤسسات في فنلندا تتعامل من منطلق الصدق والأمانة ولا يخطر في بال المرء أن الدولة أو الحكومة أو أصحاب الشأن فيها سيضعون مصالحهم أو منافعهم قبل منفعة الشعب الذي يقومون بخدمته.
وهناك شفافية عالية جدا حيث يعرف الإنسان العادي كيف تعمل النظم والحكومات والمؤسسات.
وللفرد العادي الحق كل الحق في محاسبة أي صاحب شأن وله الحق في تقديم أسئلة محددة إلى أي مسؤول وما على المسؤول إلا الجواب تحت طائلة القانون.
وأكثر شيء استرعى انتباهي في هذا البلد الذي أزوره باستمرار هو الثقة العالية وقد تكون أحيانا مطلقة في الحكومة والمؤسسات التابعة لها.
فنلندا ربما هي البلد الوحيد الذي لم ألحظ فيه شخصا واحدا يتذمر من دفع نسبة ضريبة على الدخل قد تكون الأعلى في العالم.
ولم أندهش أبدا أن يكون واحد من أسباب السعادة لدى الفنلنديين هو دفعهم ضرائب كبيرة على دخلهم وأرباحهم للحكومة.
هذا الشعب الخلاق يستقي سعادته مما تتذمر منه أو قد يكون سببا لشقاء وعدم سعادة أغلب الشعوب الأخرى في العالم، ألا وهي الضرائب العالية على الدخل والمدخرات.
ولماذا يغتبط الفنلنديون وهم يدفعون نسبة قد تصل أحيانا إلى 40 في المائة من رواتبهم الشهرية؟
السبب يكمن في أن الضريبة العالية والمتدرجة ركن من أركان المساواة التي يتمتع بها الفنلنديون. كلما زاد الدخل والأرباح، تصاعدت الضريبة.
وهذا ما جعل من المجتمع الفنلندي واحدا من أكثر المجتمعات في العالم الذي يشعر فيه أفراده أنهم تقريبا متساوون في كل شيء.
أولاد رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية والوزراء والمليونير يتلقون تربيتهم وتعليمهم في مدرسة واحدة وكلية واحدة وجامعة واحدة ومجانا. وإن عرفنا أن فنلندا تتقدم الأمم في شؤون التريبة والتعليم لصار جليا لدينا لماذا يشعر الفنلنديون بالسعادة وهم يدفعون الضرائب العالية. والإنسان العادي ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزير يتلقون الرعاية الصحية والعلاج في المستوصفات والمستشفيات ذاتها التي هي من التطور والحداثة، درجة قلة من الدول تملك مثيلا لها ولكنها متاحة للكل سواسية ومجانا.
الناس في فنلندا يستمتعون بالحياة بكل حواسها من الطفل الصغير إلى الشيخ الكبير، ومن الرجل إلى المرأة، ومن صاحب الدخل المحدود إلى صاحب الملايين، ومن الموظف البسيط والعامل والأجير في المصنع والنادل في المطعم إلى رئيس الجمهورية دون فروقات تذكر.
الفروقات بين الناس بغض الطرف عن دخولهم ومدخراتهم عند تعلق الأمر بالاستمتاع بالحياة والترفيه والسعادة والانشراح والمرح تكاد تكون معدومة.
وها قد كشفت فنلندا عن سر سعادة شعبها، فمن الدولة التالية يا ترى التي ستلحق بها أو تزيحها عن برجها؟