اليسر الاقتصادي .. ومعالجة عجز الموازنة

يسير الاقتصاد العالمي بخطى وثابة. فالنمو يتحسن، و"الصندوق" مستمر في رفع تنبؤاته. وبدأت خزائن الحكومات تمتلئ، والطلب ينخفض على الدعم الاجتماعي العام مع زيادة معدلات التوظيف. ويبدو أننا تجاوزنا مآسي العقد الماضي التي أثقلت كاهل المالية العامة. غير أن هذا المنظور المشرق يغفل مستويات الدين التي لا تزال قريبة من ارتفاعاتها التاريخية، كما يغفل حتمية انتهاء الانتعاش الدوري الراهن. فلم يحدث تغير يذكر في التقديرات الأساسية للنمو الممكن، كما بدأ ارتفاع أسعار الفائدة -أي تكلفة خدمة كل هذا الدين- ما يزيد من صعوبة إعادة تمويل السندات والقروض. وعليه، أصبحت كيفية فرض الحكومة للضرائب وتوجيهها للإنفاق وتعاملها مع الدين موضوعات سياسية ساخنة أكثر من أي وقت مضى.
في حين أن اختيارات المالية العامة تتعلق بالشأن السياسي، إلا أن الأبحاث والتجارب الأخيرة يمكن أن تعلمنا كثيرا عن المسار الأفضل في الفترة المقبلة. ونبدأ بمسألة حجم الدين الذي يعد مفرطا. فقد اتفق الأكاديميون وصناع السياسات على أنه لم يعد من المنطقي وضع حد عام للدين -كأن يكون 60 في المائة من إجمالي الناتج المحلي كما تنص معاهدة ماستريخت المؤسسة للاتحاد الأوروبي- لأن هذا الحد لا يعكس الانخفاض طويل الأمد في أسعار الفائدة والنمو الاسمي أو الظروف المعقدة للبلدان أو درجة مصداقيتها في الأسواق المالية. فأشك أن بمقدور اليابان أن تتحمل أعباء ديون أكبر مما تتحمله مصر، على سبيل المثال.
لكن قلة فحسب هي التي تنكر ما يمثله الدين من حاجة ملحة كبيرة ومتزايدة. وقد تكون الاقتصادات منخفضة الدخل في خطر أكبر. فقد اعتادت الاقتراض من الدائنين الرسميين بأقل من أسعار السوق. ولكن كثيرا منها اغتنم فرصة أسعار الفائدة بالغة الانخفاض في السنوات الأخيرة، وحصل على ديون تجارية كبيرة، ما جعل هذه الاقتصادات عرضة لتقلبات السوق المالية. ويمكن أن يؤدي ارتفاع الأسعار العالمية إلى تحويل موارد الموازنة الثمينة إلى خدمة الدين بدلا من مشاريع البنية التحتية والخدمات الاجتماعية الحيوية. ولذلك، أصبح تعزيز الطاقة الضريبية في هذه البلدان أهم مما كان عليه في أي وقت سابق. وفي الآونة الأخيرة، جاءت تجربة ما بعد الأزمة بدروس مهمة أيضا حول التوقيت المناسب لمعالجة قضية الديون ــ ومتى ينبغي الإحجام عن معالجتها. فقد لا تؤدي تخفيضات الإنفاق والزيادات الضريبية الكبيرة في فترات الركود إلا لتفاقم الهبوط. أما الحل الأقل إيلاما بكثير فهو إصلاح نظام الضرائب والاستحقاقات في فترات الصعود الاقتصادي وفي إطار عملية تصحيحية متعددة السنوات. وتشير الأبحاث إلى أن الأثر التحفيزي الذي يحدثه التوسع المالي يزداد ضعفا كلما اقترب الاقتصاد من مستوى طاقته الكاملة. وعليه، فإن الاتجاه إلى زيادة عجز الموازنة الآن من شأنه الوصول بمعظم البلدان إلى نتائج عكسية. وفي المقابل، نجد أن زيادة أرصدة الموازنة في اتجاه الهدف متوسط الأجل يمكن أن تتحقق بتكلفة زهيدة على النشاط الاقتصادي.

ما أفضل السبل لتخفيض العجز؟
من الأفضل زيادة الإيرادات بتبسيط قانون الضرائب، وتوسيع القاعدة الضريبية، وتحسين قدرات التحصيل. أما المسار الأفضل على جانب الإنفاق فهو خفض النفقات الجارية غير المنتجة "على الخدمة المدنية غير الكفؤة، مثلا" والدعم "كالذي يقدم على استهلاك الطاقة"، كذلك ينبغي الحفاظ على الاستثمارات الداعمة للنمو في مجال البنية التحتية والخدمات الاجتماعية الحيوية كالصحة والتعليم. ويمكن معالجة عدم المساواة وتحفيز النمو أيضا من خلال سياسة المالية العامة جيدة التصميم. إن الوقت الملائم لإصلاح سقف المالية العامة هو الآن، بينما الشمس ساطعة. وعلى صناع السياسات الانتباه للدروس المستفادة والمبادرة بمعالجة الدين في فترة الانتعاش.