حرب تجارية وشيكة بين واشنطن وبكين قد تعيد هيكلة الاقتصاد العالمي

التنمية برس: متابعات

على الرغم من الشكوك حول إمكانية نشوب حرب تجارية أمريكية مع الصين، إلا أن هذا لا يعنى أن إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترمب، ستكون سهلة في تعاملها مع بكين، وسط مخاوف من حقبة جديدة من الحمائية التجارية فى الولايات المتحدة سيكون لها آثار مدمرة على الاقتصاد العالمي.
وهاجم ترمب الصين مرارا في حملته الانتخابية وتعهد بإعلانها "دولة متلاعبة بالعملة"، ووعد بتكليف وزير خزانته، لتسمية الصين بـ"تاجر العملة" فى أول 100 يوم من ولايته، وهو أمر تجنبه الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما، خوفا من استفزاز بكين.
وتحتفظ الصين بـ 1.19 تريليون دولار من سندات الخزينة الأمريكية، وليس مستبعدا أن تؤدي المواقف الحالية إلى حرب تجارية بين البلدين. 
"الاقتصادية" سعت إلى استطلاع آراء مجموعة متنوعة من الخبراء والأكاديميين الاقتصاديين ورجال الأعمال البريطانيين بشأن رؤيتهم لمستقبل الاقتصاد الأمريكي تحت حكم ترمب؟، وإلى أي مدي يمكن أن يعيد للشركات الأمريكية وهجها المفقود نسبيا؟ وكيف ستؤثر التوجهات الاقتصادية الأمريكية الجديدة على العلاقات مع الصين؟
البروفيسور صامويل هانتر الأكاديمي البريطاني وأحد أبرز الاقتصاديين المدافعين عن الخروج من الاتحاد الأوروبي وتعزيز الروابط الاقتصادية مع الولايات المتحدة، يعتبر أن ترمب يمثل مرحلة حاسمة في تطور الاقتصاد الأمريكي يمكن أن تعيد له جوانب القوة التي فقدها منذ الأزمة الاقتصادية التي اندلعت عام 2008.
وأضاف هانتر، أنه يجب فهم رؤية ترمب في إطار المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية، وباختصار فإن خفض الضرائب على رجال الأعمال أولا وعلى باقي فئات المجتمع ثانيا يؤدي إلى إتاحة مزيد من القدرة المالية لدى قطاع الأعمال للتوسع، ومن ثم زيادة معدلات التوظيف، أما خفض الضرائب على باقي فئات المجتمع، فيتيح مزيدا من السيولة المالية لدى المستهلكين للإنفاق، ومن ثم زيادة الطلب الكلي وتحقيق الانتعاش الاقتصادي. 
ويقول هانتر إن تلك الرؤية البسيطة التي تأخذنا مرة أخرى إلى أبجدية علم الاقتصاد ترتبط أيضا بجانب آخر، وهو انحياز الإدارة الجديدة لقطاع الصناعات التحويلية باعتباره القطاع المنتج في الاقتصاد.
وأشار هانتر إلى أن قطاع الصناعات التحويلية في الاقتصادات الرأسمالية عالية التطور، يعد القائد الفعلي للعملية الإنتاجية والإبداع التكنولوجي والنمو الاقتصادي، مضيفا أن هذا القطاع تراجع فيه معدل التوظيف من 28 في المائة من إجمالي القوى العاملة الأمريكية في ستينيات القرن المنصرم إلى 8 في المائة حاليا.
وأوضح هانتر أن هذا التراجع في دور قطاع الصناعات التحويلية وزيادة دورة قطاع الخدمات، مؤشر على تراجع قوة واشنطن الاقتصادية، وسبب في انخفاض معدل النمو، وإذا كانت عملية التحول تلك لا مفر منها، فإن الاتفاقات التجارية السيئة التي وقعتها الولايات المتحدة مع عديد من البلدان أدت إلى مزيد من تدهور الوضع.
ويرى هانتر أن ردود فعل الأسواق على رؤية ترمب الاقتصادية تشير إلى أن الشركات الأمريكية ستشهد انتعاشا ضخما خلال الفترة المقبلة، فمؤشر داو جونز، ومؤشر ناسداك التكنولوجي حققا أرقاما قياسية، تكشف بوضوح عن ثقة مفرطة من قبل الشركات الدولية وكبار رجال الأعمال والمؤسسات المالية، في قرارات ترمب الاقتصادية. 
وذكر هانتر أن تلك القرارات تعد تطبيقا فعليا لما تعهد به ترمب من رفع معدلات النمو خلال السنوات المقبلة، وأعتقد أن الشركات الأمريكية ستتمكن من استعادة مواقعها المفقودة، سواء في الداخل الأمريكي أو على المستوى العالمي خلال العامين المقبلين.
وجهة النظر المتفائلة تلك، تجاه مستقبل الاقتصاد الأمريكي في عهد ترمب نجدها أيضا عند عدد من رجال الأعمال وخبراء الاستثمار البريطانيين، ومن بينهم نيل ماداي، الخبير الاستثماري وكبير المحللين الماليين سابقا في بورصة لندن الذي يعتقد أن تعهد الرئيس الأمريكي بإزالة العراقيل التي تقيد حركة الاستثمار الداخلية والتخلص من الاتفاقيات التجارية التي لا تحقق مصلحة الاقتصاد الأمريكي، مثل اتفاقية الشراكة الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ، وإبلاغ كندا والمكسيك بأن واشنطن ترغب في إعادة التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، سيمثل أرضية ملائمة لرأس المال الأمريكي للتحرر من القيود التي تكبله.
وأضاف ماداي، أن العجز التجاري الأمريكي هو الأكبر في العالم، ويمثل خطرا حقيقيا على الاقتصاد الأمريكي، وهذا العجز متواصل آخذ في النمو منذ عام 1975، فمع الدول الأعضاء في اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، بلغ إجمالي العجز الأمريكي 76 مليار دولار من بينها 15.5 مليار دولار لصالح كندا، و60.6 مليار لصلاح المكسيك، أما العجز التجاري الأمريكي مع الصين فبلغ 367 مليار دولار أي 40 في المائة من إجمالي العجز، ولتمويل هذا العجز كان على واشنطن أن تواصل الاقتراض من الخارج خاصة من الصين.
ويؤكد ماداي، أن هذا الوضع كان نتيجة السياسات الاقتصادية التي تبناها الرئيس السابق باراك أوباما، التى أضعفت بشكل ملحوظ من قوة الاقتصاد الأمريكي وجعلته غير قادر على القيام بدوره التاريخي منذ الحرب العالمية الثانية، كقاطرة لجذب الاقتصاد العالمي للأمام.
ويرى ماداي، أن جهود الإدارة الأمريكية لاستعادة التوازن وخفض العجز التجاري، ورفع معدلات الفائدة لجذب مزيد من رؤوس الأموال العالمية إلى أمريكا نتيجة لزيادة القوة الشرائية للدولار، سيؤدي إلى انتعاش الاقتصاد الأمريكي حتما، وسيمكن الشركات الأمريكية من ضخ مزيد من الاستثمارات في الأسواق الداخلية، خاصة مع انصياعها لتهديدات ترمب بفرض رسوم جمركية عليها إذا ما واصلت سياستها الراهنة بتصنيع سلعها خارج الولايات المتحدة وإعادة تصديرها إلى الأسواق الأمريكية.
وبطبيعة الحال، تحظى وجهات النظر تلك برفض قطاع كبير من الأكاديميين وخبراء الاقتصاد في المملكة المتحدة، ويصل الحد ببعضهم إلى اعتبارها كارثية وخارج نطاق العصر، بينما يراها آخرون أنها ستؤدي في أحسن الأحوال إلى تحسن في أداء الاقتصاد الأمريكي – إلى حين – بينما ستؤدي إلى إنهاك شديد للاقتصاد العالمي، خاصة أن الزيادة في معدل النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة، لن تكون كفيلة بتعويض التراجع في النمو العالمي.
الدكتورة أديل أوترم الاستشارية الاقتصادية للبرلمان الأوروبي، تطلق على سياسات ترمب الاقتصادية "التدمير الذاتي" وتعتقد أن المحصلة النهائية ستكون شديدة السلبية على الاقتصاد الأمريكي في الأجل المتوسط والطويل، حتى إن حققت بعض النجاحات في الأجل القصير.
وتقول أوترم إن صياغة القرار الاقتصادي الأمريكي يتحكم الآن في مجموعة ضيقة من الاقتصاديين، الذين يرفضون التجارة الحرة، بدعوى أن الاتفاقيات الموقعة غير عادلة ولا تحقق مصالح المواطن الأمريكي، ولكنهم في حقيقة الأمر يؤمنون بانغلاق الاقتصاد الأمريكي، ويعتقدون أن سبب التراجع الاقتصادي يكمن في توسيع نطاق علاقته الخارجية، ومن ثم فإنه بات عرضة بشكل أكبر للإصابة بالمرض نتيجة انتقال أزمات الآخرين له، ويتناسون ما حققه هذا الاقتصاد من تقدم وتطور نتيجة توسيع نطاق تجارته الخارجية.
وتضيف أوترم أن التوتر الحالي في العلاقات مع المكسيك نموذج لمخاطر تلك الحمائية الاقتصادية، فحجم التبادل التجاري اليومي بين المكسيك والولايات المتحدة يبلغ 1.4 مليار دولار، والرسوم الجمركية التي يهدد بفرضها ترمب ستؤدي إلى إضعاف هذا التبادل التجاري بشدة، وما سيتتبعه ذلك من ضرر بين على المستهلكين والمنتجين في البلدين.
وجهة النظر تلك تلقى تأييدا تاما من قبل هنري جيمسن الباحث الاقتصادي في بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) الذي يحذر من أن إفراط الإدارة الأمريكية الجديدة في التخفيضات الضريبية قد يخلق حالة من عدم الاستقرار الضريبي والمالي للنظام الأمريكي ذاته.
ويوضح جيمسن أن تعهدات ترمب بتخفيضات ضريبية قد تبلغ عشرة تريليونات دولار على عدة سنوات، كفيل بإحداث فجوة مالية ضخمة في الميزانية الأمريكية، إذ سيؤثر حتما في قدرة الحكومة الفيدرالية على الإيفاء بكثير من الالتزامات لمواطنيها، والخطورة أنه هدد في عديد من المرات بأنه سيتخذ إجراءات لإعادة هيكلة الدين الأمريكي، وهذا سيفقد عديدا من الدائنين والمؤسسات الدولية الثقة بقدرة الاقتصاد الأمريكي على الإيفاء بتعهداته المالية الدولية.
وحول الآثار الإيجابية لخفض الضرائب على الشركات في إنعاش الاقتصاد الأمريكي، يرى جيمسن أن تلك الآثار ستعود بالنفع على الشركات الدولية ورؤوس الأموال الكبيرة، لكنها ستكون وبالا على المستهلكين.
وأضاف أن الصادرات لعبت دورا مهما في تعزيز النمو الاقتصادي للولايات المتحدة في السنوات الماضية، متسائلا: ما الذي سيحدث للصادرات الأمريكية إذا عزلت واشنطن اقتصادها عن العالم الخارجي بسور من الضرائب والتوترات التجارية مع شركائها الكبار مثل الصين والمكسيك؟ 
ويجيب جيمسن، أن مستوى المعيشة المرتفع الذي يتمتع به المواطن الأمريكي حاليا يعود في جزء كبير منه إلى انخفاض تكلفة الإنتاج نتيجة المنافسة بين المنتج المحلي ونظيره المستورد، والمتوقع أن تتراجع واردات أمريكا من الخارج نتيجة الزيادة المتوقعة في الرسوم الجمركية، أو أن تزيد أسعار السلع المستوردة، وهذا سيمكن الشركات الأمريكية من رفع أسعار منتجاتها، وبالتأكيد ستكون أقل نسبيا من أسعار السلع المستوردة المماثلة.
ويؤكد جيمسن أن المستهلك الأمريكي سيتحمل في النهاية الفروقات المالية، وهذا يعني أن الشركات الدولية العاملة في الأسواق الأمريكية ستحقق أرباحا مزدوجة نتيجة خفض الضرائب من جانب، والارتفاع النسبي في أسعار منتجاتها من جانب آخر، بينما سيدفع المستهلك أسعارا أعلى للسلع المستهلكة.
إلا أن هذا التباين في تقييم التوجهات الاقتصادية للإدارة الأمريكية الجديدة، لا ينفي وجود نقاط مشتركة بين خصوم ترمب وأنصاره، يمكن اختصارها في ثقة الطرفين أن العلاقات الأمريكية الصينية مقدمة على توترات تجارية ضخمة قد تسفر عن حرب تجارية. 
وأحد شواهد تلك العلاقات المتوترة، تعيين البروفيسور بيتر نافارو رئيسا للمجلس التجاري الوطني، وهو أحد أشد الاقتصاديين الأمريكيين عداء للصين، ولديه مؤلف شهير باسم "الموت الصيني" يحمل فيه بكين وسياستها التجارية مسؤولية تباطؤ النمو الأمريكي.
ويعد هذا الكتاب جوهر الرؤية الاقتصادية الأمريكية تجاه الصين في المرحلة المقبلة، وقد جاء فيه: "إن اللحظة التي ضغط فيها بيل كلينتون لحصول الصين على مقعد في منظمة التجارة العالمية تعد لحظة فارقة في تاريخ الاقتصاد الأمريكي، فهذا أسوأ خطأ سياسي واقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة في السنوات الـ 100 الماضية".
ويدعي البروفيسور بيتر نافارو أنه خلال الفترة من 1947 إلى 2001 نما الاقتصاد الأمريكي بمعدل 3.5 في المائة سنويا، إلا أنه منذ نالت الصين مقعدها في منظمة التجارة، فإن معدل النمو الأمريكي لم يعد يتجاوز 1.8 في المائة سنويا في الفترة من 2002 إلى 2015، وذلك لأن الصين أغرقت الأسواق الأمريكية بعديد من المنتجات والسلع، التي تعتقد إدارة ترمب أنها مدعومة من قبل الحكومة الصينية بطريقة تتنافى مع التجارة العادلة.
ويشدد الدكتور ريتشارد هاري أستاذ التجارة الدولية في جامعة أكسفورد، على ضرورة الاستعداد للحرب التجارية المقبلة بين الصين والولايات المتحدة، مشيرا إلى أن الخطورة الحقيقية تكمن في أنه إذا زادت حدة الحرب بين الطرفين، فحتما سنشهد حرب عملات بين الدولار واليوان.
وأضاف هاري أن المشكلة الحقيقية هى أن تلك الحرب لن تقف عند حدود البلدين، فحتما ستمتد إلى جميع اقتصادات العالم، فترابط التجارة الدولية الآن يجعل من المستحيل أن يفلت أحد من براثين تلك الحرب، التي ستقود إلى تراجع معدل النمو العالمي ككل، وكذلك انخفاضه في الولايات المتحدة في الأمد الطويل، حتى إن حققت إدارة ترمب انتصارات في بداية المعركة.