مصانع طحن الاسمنت..مشاريع العصر
د/ حسين الملعسي
■ صناعة الإسمنت هي عملية تحويل المواد الخام مثل الحجر الجيري والطين إلى مادة بناء قوية تستخدم في تشي...
ما زلت أفاجأ كل يوم بمن يترك وظيفته أو دراسته ويرمي بنفسه في المحيط بحثا عن شيء لا يعرفه جيدا. نعم سمعنا وقرأنا عن جسارة وشجاعة رواد الأعمال وعن روح المجازفة التي تميزهم حتى عن أقوى تنفيذي الشركات؛ بعض هذه النماذج التي تستحق الاقتداء بها موجودة بيننا اليوم. ولكن لم أتصور أن أشاهد شخصيا حالات عديدة لشباب ما زالوا في بداية حياتهم ولا يملكون ما يكفي بعد من الأدوات والمهارات للمضي قدما ولكنهم مستعدون للتخلي عن خططهم الدراسية والوظيفية لسبب واحد فقط، وهو ركوب موجة المشاريع الصغيرة والاستقلالية المبكرة جدا، ربما أكثر من اللازم. على الرغم من أنني مقتنع بأن دفع مزيد من الشباب نحو تأسيس المشاريع الصغيرة والسعي في نطاق ريادة الأعمال لا يزال مطلبا حيويا نافعا لهم شخصيا وللمجتمع، ولكن هذا لا يعني أن يكون بلا إعداد ملائم أو أن يتحول إلى تهديد حقيقي لمستقبلهم.
كنت أعتقد أننا تجاوزنا مرحلة الزخم السلبي المصاحب لريادة الأعمال الذي جعل منها صيحة مؤقتة تتعرض للاستغلال. بدأت الموجات الأولى من دعوات الريادة والابتكار قبل أكثر من عقد من الزمان وهي فترة طويلة نسبيا. لقد خسر بسببها البعض أموالهم ومنهم من لا يزال يسدد ديون مشاريعه حتى اليوم. وعلى الرغم من مرور كثير من السنوات، إلا أن المبالغة -وكما هي دائما- تعود علينا بنتائج عكسية. أصبح رواد الأعمال الحقيقيون اليوم يتحاشون الظهور بمظهر رياديي الأعمال، حتى الفعاليات التي يفترض أن تكون أفضل الفرص للفت الانتباه وتركيز الجهود وتحسين التواصل تحولت إلى تجمعات مكررة تنال كثيرا من الانتقادات اللاذعة. عمليا، نحن ما زلنا في البداية، قبل أيام فقط قامت هيئة المنشآت المتوسطة والصغيرة باعتماد مجموعة تعاريفها الجديدة، وهذا يعني الخطوة الأولى في عملية الدفع بالمحفزات الذكية التي كنا ننتظرها كل هذه المدة، وربما تغييرات جذرية في هيكلة وتوزيع الجهات الداعمة لمؤسسي المشاريع.
تطور بيئة ريادة الأعمال وتعدد وسائل دعم المنشآت الصغيرة لا تعد أسبابا كافية لاستقالة الشباب من أعمالهم. إذا كان أحد شروط التمويل هو التفرغ الكامل فهذا يخص من يملك الجاهزية والتركيز الكافي للانطلاق بمشروعه الصغير. نعم هناك لحظة تتطلب شجاعة الشاب الذي سيقدم للمجتمع باستقالته أضعاف ما يقدمه في وظيفته الحالية، ولكن هذه اللحظة تحصل فقط لدى من يكون مستعدا من النواحي النفسية والشخصية لصنع بداية جديدة أقوى، وتحصل فقط لمن انتهى من تسليح نفسه بمهارات التعامل مع الآخرين، والتسويق، وبناء فرق العمل، والثقة بالنفس وغير ذلك من قائمة المهارات التي يحتاج إليها ممارسو العمل التجاري الحر. فهم شرط التفرغ وكأنه دعوة لترك العمل يمثل تعارضا كبيرا بين أهداف البرامج الداعمة وبين الأهداف الشخصية للمستفيدين من الدعم. يجب أن يعاد طرح هذه البرامج بطريقة تسمح بالتفريق بين من يملك الجدية الكافية ويعرف ما هو مقدم عليه، وبين الأقل وعيا الذي لا يعرف قدر المخاطر المحيطة بتأسيس المشاريع ولا حجم المجازفة بمستقبله.
معالجة هذه القضية لن تكون من طرف البرامج الداعمة فقط، حتى الشاب يحتاج إلى إعادة قولبة للحماس الذي يدفعه بذلك الاتجاه. وهذا استثمار آخر تنقلب به المغامرات غير المحسوبة إلى تخطيط مفيد. ربما لو اقتنع هذا الشاب بأن العمل في شركة متفوقة في المجال نفسه الذي ينوي فيه تأسيس مشروعه لعدد قليل من السنوات لتغيرت المعادلة تماما. حتى الشركة التي تعرف أن هذا الشاب سيتركها يوما ما ليقوم بعمل جيد، ستقوم بالاستفادة منه بقدر المستطاع، وهذا يعني تعرضا أفضل للتجارب والممارسات التي يستطيع استثمارها لاحقا لمشروعه.
الواقع يقول إن تأسيس المشاريع ليس حصرا على أحد ولا يشترط أن يكون أحدهم ريادي أعمال بالوراثة حتى ينجح أو ينفع مجتمعه بمشروعه. ولكن، لا نستطيع في الوقت نفسه دعوة الكل وخصوصا من هم في مقتبل العمر لخوض تجارب لا يعرفون ما تنطوي عليه من مخاطر، خصوصا المخاطر الشخصية التي تؤثر في مستقبلهم وما قد يخسرونه من فرص التجربة والتعلم. أتمنى أن تصبح برامج دعم المشاريع الصغيرة أكثر فاعلية، ومن ذلك أن تراعي تنوع الفئات التي تتعامل معها وأن تقدم حلولها بشكل متكامل يحقق الأثر المطلوب، لا أن تكون مؤشرات أدائها عدد القروض التي قامت بتسليمها أو عدد المستفيدين دون أن تحدد كيفية هذه الاستفادة وإمكانية استمرارها في المستقبل.
نقلا عن الاقتصادية