مصانع طحن الاسمنت..مشاريع العصر
د/ حسين الملعسي
■ صناعة الإسمنت هي عملية تحويل المواد الخام مثل الحجر الجيري والطين إلى مادة بناء قوية تستخدم في تشي...
تمر المملكة بحالة جديدة على أثر الطرح الاقتصادي الجديد كما ورد في "الرؤية" وخطط التحول الوطني. لأسباب كثيرة منها فقر النقاش الاقتصادي حتى اللغة الاقتصادية لم تتطور كما حدث مع اللغة في المساحات الاجتماعية والإنسانية الذي حدث بدوره بسبب الاهتمام العربي بالسياسة على حساب الاقتصاد. جاءت في بالي هذه الخواطر وأنا أستمع إلى نقاش بين رجل أعمال وأستاذ هندسة، آثرت الاستماع، حيث شدني اختلاف ليس المصالح والخلفية المعرفية ولكن المنهجية وتفهم المرحلة والطرح الاقتصادي الجديد وتوظيف الأمثلة. صادف هذا النقاش وأنا أقرأ ورقة لروبورت شلر أستاذ الاقتصاد في ييل الفائز بجائزة نوبل. الورقة تبحث في دور "السرد أو الرواية المتداولة" في تشكيل الاعتقادات والطرح وتأثير ذلك في السياسات الاقتصادية. كانت هناك محاولة تبدو جادة بينهما للتوافق، لكن الأدبيات والوقت تركا الاختلافات إلى حد أن المستمع قد يظهر له أنهم يتحدثون عن بلدين مختلفين. ولكن هذا النقاش الحضاري تركني في حيرة مع محاولة الاستفادة من ورقة شلر. صعوبة النقاش تنبع أساسا من توظيف Narrative ومنطلقاته.
لا أعرف الترجمة الدقيقة للكلمة، ولكنها تعني مزيجا من السرد أو الرواية. المقصود بالسرد طبقا لشلر القصص البسيطة التي يسهل التعبير عنها لفئات عديدة من المجتمع أثناء الأحاديث والكتابة والتداول في شبكات التواصل الاجتماعي. المهم أن لهذا السرد دورا فاعلا في الحراك والتذبذب الاقتصادي. سرد القصص تتوصل له الفعاليات المجتمعية دون تخطيط، فهو ينتج عن تفاعل وقراءات مسبقة وعواطف ورغبات وحقائق وانطباعات. السرد والرواية هما الطرح المقبول بغض النظر عن الحقائق الموضوعية. إقحام السرد وأهميته في النقاش الاقتصادي جديد حتى على الاقتصاديين، لأن التوجه العام في الاقتصاد يبدي اهتماما بالمعلومات والأرقام والحقائق وتحويلها إلى معادلات رياضية ونماذج، بينما إدخال السرد يبعدنا عن هذا التوجه من ناحية ويتطلب أخذ علوم اجتماعية أخرى للتحليل والفهم وبالتالي السياسات. النماذج الاقتصادية في أغلبيتها هادفة ومبنية على الحقائق، بينما السرد خلاصة محصلات تفكير جمعي ليس مبنيا على الحقائق في أغلبيته. السرد قد يبدأ بفرد أو بمجموعة تتداول فكرة وتستطيع ترويجها إلى إقناع الكثير بها. يذكر شلر قصة كتابه منحنى لافر Laffer Curve ، أتذكر محاضرة له في كلية كليرمونت للاقتصاد في بداية الثمانينيات، على منديل في مطعم كنقطة البداية لسياسة ريجان في خفض نسبة الضرائب وتوقع زيادة العوائد منها لأن القاعدة الضريبية ستتوسع، بينما الحقيقة أن هذا الطرح لم يكن جديدا ولم ينجح ولكنه بقي في الذاكرة والسرد، واليوم تحاول إدارة ترمب القيام بخطة مماثلة.
وظف أستاذ الهندسة ورجل الأعمال قصصا مختلفة لم تساعد على التوافق لأن الطرح لم يتجسد أحيانا ناهيك عن الحقائق أو حتى تعريف الحقائق، أيهما أهم الاستقدام لتسهيل الأعمال أم توظيف المواطنين. فمثلا كان هناك ضمنيا الاعتقاد أن هناك حاجة إلى النمو الاقتصادي لكي يعوض نقص المصروفات العامة، ولكن هناك إجماعا على أن مصروفات الحكومة عالية وكانت في تزايد غير صحي، خاصة بعد انخفاض أسعار النفط ولكنها ضرورية للنمو. الجدل حول طرح "أرامكو" يخضع لهذا التجاذب الذي يصعب أن يستند فقط إلى الحقائق. لذلك نجد هناك اختلافات وخلافات بعضها مغلق التسبيب وبعضها عدمي. لعلي أجد سببا فإن الحديث الاقتصادي جديد نسبيا، وبعضها ضعف إعلامي ومعلوماتي، وبعضها بسبب دور التوزيع في السياسة الاقتصادية على حساب الإنتاج والكفاءة، وبعضها بسبب الاقتصاد الريعي حين استحدث قصص نجاحات مبنية على المال والعلاقات وليس على القوى والمؤسسات الاقتصادية. هذه القصص تتطلب تفكيرا أكثر في أدوار علم الاجتماع حتى علم النفس والتاريخ.
على الجهات الفاعلة في القطاعين العام والخاص، والإعلام والأكاديميين والمثقفين وصناع الرأي ابتكار قصص وروايات جديدة قادرة على استيعاب أفئدته العامة لتسهيل الخيارات والسياسات الاقتصادية الجديدة. عليهم التسلح بالمعرفة والقوة والثقة لكي يستطيعوا تكوين سياقات ذات تأثير في السياسات والتوجهات المجتمعية، خاصة الاقتصادية.