أخلاقنا إلى أين؟!

لم يكن أن يجول في خاطري أن أقوم يومـًا ما، بالكتابة في موضوع الأخلاق، كما تطبق عمليـًا في مرحلتنا الراهنة.. إذ كنتُ أعتقدُ على الدوام إن الأخلاق في جانبها العملي ترتكزُ على أُسسٍ أسبق وأعمق أي إنـَّها ليست كيانـًا قائمـًا بذاته، خاضعـًا لمنطقه الداخلي، مستقبلاً عمـَّا عداه وغير متأثر؛ إلا بنفسه، وإنـما هي السطح الظاهري الذي تتفاعل من تحته وتتعامل عشرات من العوامل الدفينة، وهي عوامل يصعب  على العين العادية إدراكها، وتكون حصيلة تفاعلها في نهاية الأمر ذلك الشيء الذي نسميه الأخلاق.
 
 
 
ومن هـُنا كان من قبيل إضاعة الوقت والجهد فيما لا طائل ورائه أن يجهد المرء نفسه في الحديث عما يجري على السطح الظاهري الذي لا يرى معظم الاس سواه، وهو يعلمُ إن من وراء هذا السطح عوامل خفية، هي التي تحركه من وراء الستار، وإنَّ هذه العوامل تبدو مقطوعة الصلة بمجال الأخلاق، بينما هي في حقيقة الأمر تمارس عليه تأثيرًا حاسمـًا، وإن لم يكن مع ذلك تأثيرًا واضحـًا للعيان.
 
 
 
ولنتساءل عزيز القارئ هنا مَنْ منـَّا اليوم لا يصرخ مما وصل إليه حال الأخلاق في مجتمعنا والأمثلة كثيرة سنجدها في التربية الأسرية والتعليم في المدرسة والفساد في مختلف مفاصل الدولة، ولم يستثنى منه أيضـًا مؤسسات المجتمع المدني والنوادي والاتحادات الرياضية وحتى التخصصية  وفي جشع أطباء القطاع الخاص، وتجار البقالات والمجمعات التجارية، وفي تمرد الأبناء على الآباء وتهديد الطلاب لمدرسيهم، وفي مساومة الإدارات المدرسية وارتشاء المدرس وفي الغش في الامتحانات وفي المكابدة بين الجيران، وفي ابتلاع مقومات الدولة من قبل تجار الأراضي والمتنفذين والعبث بأراضي الله ومراعيها، وفي تدمير البيئة وتحويل اراضي الأشجار التاريخية المعمرة مثل دوش الطارئ (الخل) بتدمير مليوني شجرة ذاكرة عدن التاريخية من أدواش الأراضي الواسعة التي تحتضنها ضواحي عدن التي خصها الله لخلقه عملاً بقول رسول الله الأعظم عليه الصلاة والسلام: "الأرض أرض الله والخلق خلق الله"، وهم الشركاء في الأرض والماء والكلاء، وإذا بمروجنا الخضراء ومراعينا وأراضينا الزراعية تتحول إلى كتل اسمنتية، وأصبح أمننا الغذائي في المشمش!!
 
 
 
أما ما جرى لآثارنا التاريخية ومرابطنا الدينية من عبث وتدمير ممنهج فحدِّث ولا حرج، فها هي صهاريج الطويلة يتم اختراق سورها والعبث بآثارها والبناء في محيطها الأعلى وتسرب مجاري الصرف الصحي منها لتتجه إلى الصهاريج فتتلوث معالمنا التاريخية والسياحية والكل يغض النظر، الحكومة ووزارتي الثقافة والسياحة أو المعنيين بالآثار والمتاحف أو السلطة المحلية في قيادة المحافظة والمديريات وحتى الجمعيات والهيئات المعنية بحماية الآثار، والأحزاب والمجتمع المدني ناهيك عن المؤسسات الأكاديمية والجمعيات الحقوقية التي تعنى بحقوق الإنسان، ولا حتى تخطيط المدن والعمران؛ إنـَّه تدمير ممنهج لتدمير عدن التاريخ والحضارة والتجارة.. عدن الثقافة والتنوع والتسامح الديني والفكري هذه المدينة التي لم تسلم حتى جبالها من البناء العشوائي وابتلاعها لتصبح عدن بحرًا بلا جبال كل ذلك يتم بصورة ممنهجة مع سبق الإصرار والترصد، والكل يغض النظر مشغولين باللهث وراء المناصب والإثراء غير الشرعي والتسلق بالحبال القصيرة للحصول على المناصب المرموقة يساومون في كل شيء حتى في الحب والانتماء والضمير الوطني تجاه هذا الوطن همهم الوحيد المادة، ولا بأي طرق ولو حتى من أبواب الحرام.
 
 
 
بل من أعظم الكوارث في سوء الأخلاق تقنين الرشوة في مؤسسات الدولة والخاصة وانتشرت حتى في المجتمع المدني – للأسف الشديد  - وتماهي المواطن معها تحت إلحاح الحاج الضرورة غير المبررة بسبب غول الفساد التي امتدت خيوطه العنكبوتية في كل مفاصل الدولة.
 
 
 
 أمراضٌ أخلاقيةٌ كثيرةٌ لا تـُعد ولا تـُحصى، تهدد مجتمعنا وإنساننا في هذه الأرض الطيبة في المناطق الجنوبية المحررة، التي كنا نأمل أن تكون نموذجـًا للأمن والاستقرار والسلام الاجتماعي وحماية الإنسان من الجريمة، فاصبح – للأسف الشديد – يموت جيلنا بالمجان، ويلهث وراء الصدقات فيما تنتهك حقوق الإنسان عيني عينك في ضوء النهار والليل، وأصبح هذا الانتهاك لا يخفَ على أي عين مهما رمدت.
 
 
 
الكل يلاحظ ويحس ويشعر تفشي تلك الأمراض الأخلاقية الدخيلة على قيمنا وتاريخنا وثقافتنا، هناك جرائم السرقة والاختطاف والاغتصاب للأطفال الأبرياء والفتيات وانتهاك المحارم وظهور العصابات المسلحة والإرهابية والقتل بالمجان، وضحايا إطلاق الأعيرة النارية في الأعراس التي لا تحصى ولا تعد متجاوزين أعراف الزواج الحضارية في عدن، ناهيك عن ابتلاع مقومات الحكومة من قبل حاميها حراميها، ولا ننسى أيضًا ظاهرة شهادة الزور وكله بالفلوس واستبدال قوة القانون بقانون القوة والاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام وحتى احتكار الحقيقة والاعتماد على أصحاب الثقة والقبيلة والحاشية والمنطقة والحزب والمذهب.
 
 
 
مثل هذه الظواهر الدخيلة على ثقافة أبناء عدن، وحضارة المدينة – للأسف – قد تأصلت في السنوات الأخيرة في مجتمعنا العدني أو الجنوبي، غذا ما جاز لنا التعبير، وهذا الأمر يدل بما لا يدع مجالاً للشك على حقيقة أن هناك إحساسـًا عامـًا بوجود أزمة أخلاقية حادة، ويمكن القول إن هذا الإحساس قد بلغ ذروته واقصى درجاته في الآونة الأخيرة أي بعد الحرب التي يشهدها الوطن، ومترتباتها كما ظهرت بوضوح للجميع إنها قد أحدثت نوعـًا من الانهيار في الأخلاقيات وهو أمرٌ أثار فينا السخط، فتخرج آهات حزينة وساخرة من عمق الأنفاس لتقول : آه يا وطني أصبحت اليوم بلاد الضناء والضيق أو أصبحت – للأسف – إذا ما جاز لنا التعبير مع الاعتذار أشبه ما تكون (بمصحف في دار زنديق).
 
 
 
ونعود لنقول مجددًا : لقد بلغ السيل الزبى، وازدادت حدته جراء الحرب ومترتباتها، ونخشى أن تحدث – لا سمح الله – انهيار في معنويات المواطن ليصل إلى قناعة تامة أنـه يعش غريب في وطنه، ونخشى كذلك أن يستفحل هذا الواقع المؤلم الذي تجلت مؤشراته في عبارات ساخطة واحتجاجات اجتماعية وحقوقية مشروعة، فضلاً عن النكات التي لا يفلت منها مسئول من العيار الثقيل من سخريتها اللاذعة أو لدغتها الساخرة.
 
 
 
ومن هنا نجزم بالقول: إننا ما زلنا نفتقر للوعي العبث الاجتماعي للأخلاق وبما تنطوي عليه من إحساسٍ بالمسئولية العامة مع أن للأخلاق بعدًا اجتماعيـًا هو في أولويات أبعادها الاجتماعية، وستكون النتيجة المباشرة لذلك هو التهاون في أداء المسئوليات العامة نحو المجتمع والافتقار إلى الضمير الوطني أو الوعي الاجتماعي، فضلاً عن ممارسته القهر الفكري والمهني والاستغلال غير الإنساني للقوى الذهنية والجسمية، وممارسة الكبرياء والتحقير والإذلال للمرؤوسين تمثل الازدواجية الأخلاقية.
 
 
 
وفي ضوء هذه الحقائق المؤلمة نستطيع أن ندرك أن قدرًا غير قليل  من عيوبنا الأخلاقية راجع إلى انتقال عدوى القدوة السيئة بالتدريج من مستويات عليا في المجتمع على المستوى الأدنى منها ولسنا في حاجة إلى جهدٍ كبيرٍ لكي نأتي بأمثلة لتصرفات لا تؤدي إذا انتقلت عدواها من أعلى السلم الاجتماعي إلى أسفله إلى انهيار وانحلال أخلاقي بين الحين والآخر، فتشاع أخبار استغلال نفوذ أو تصرف غير مشروع في الأموال العامة أو إثراء مفاجئ بغير حدود ترتبط هذه التصرفات المعيبة بأشخاص مسؤولين يؤثر سلوكهم في نفسية الألوف من الناس، بحيث يضرب لهم أسوأ الأمثلة ويكون لهم شر قدوة وكثيرًا ما يجد المجتمع نفسه حائرًا إزاء استشراء هذه النقائص، وفي هذه الحالة يكون العلاج هو العامل الحاسم أي في المحاسبة الفورية واتخاذ الإجراءات الصارمة للمنتهكين، وليس اللجوء إلى الوعظ والإرشاد، بل من خلال الإجراءات الرادعة والاستخدام الرشيد للوظيفة والمال العام، وهنا يجد الانتهازيون أنفسهم مضطرين إلى الانسحاب من المناصب من تلقاء أنفسهم؛ لأنَّ المسألة لم تعد تجلب مغنمـًا ولا يبق؛ إلا مَن يريد أن يؤدي الخدمات العامة لصالح المجتمع ككل لا لصالحه هو أو أقربائه أو المحيطين به.
 
 
 
ولنضرب مثالاً آخر والذي لا يشك أحد في أن يكون جزءًا من عيوبنا الأخلاقية الظاهرة، وأعني به النفاق والمجاملة المتطرفة، وحسبنا أن نفتح صفحات جرائدنا لكي نلمس في أكبر مساحاتها أمثلة لا حصر لها لتلك الظاهرة التي ربما كنا نتفرد بها عن سائر بلدان العالم، التي لا ترمِ إلى الترويج لسلعة جديدة أو تنبيه الناس إليها، بل تستهدف تملق مسئول أو الدعاية الشخصية لأصحاب الأمر والنهي في الجهة صاحبة الإعلان، مثل هذه الظاهرة الغريبة التي تمر علينا يوميـًا دون أن نبدي لها اهتمامـًا لها في واقع الأمر، وهي أخطر الدلالات، فكيف نمر بمعاناة الحرب ونحن نؤجر تلك المساحات الشاسعة من صفحات الجرائد في سبيل كلمات لا يقرأها أحد؛ إلا من اكتووا بها وحتى لو قرئت، فلن يستخلص الناس منها؛ إلا دروسـًا بارعة في التملق الرخيص للمسئول أو صاحب الجاه، فلمصلحة من هذا الإعلان الذي يتم دفعه من المال العام، مال الدولة ومن المؤسسات الحكومية؟ وهل نحن بحاجةٍ إلى أن تمتلئ صحفنا بعبارات النفاق الفارغة التي تعود في نهاية الأمر إلى الإضرار بالمال العام وعلى حساب أموال الشعب من جهة وأخلاقه ومعنوياته من جهةٍ أخرى؟ هل يحق لنا أن نتحمل هذه الأضرار بمال الدولة الذي لا يتناسب مع معاناة المواطن من ضعف وغياب الخدمات الاجتماعية والحياتية ومع انخفاض الرواتب وارتفاع الأسعار للمواد الغذائية، هذا عيب أخلاقي، لكن يظل أمامنا السؤال الكبير .. ما الحل؟! لماذا لا نمنع الصرف على هذه الإعلانات وماذا يعنينا أن يعود مثلاً رئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات من الخارج فتمتلئ مساحات من الصحف بتهاني مرؤوسيه له على سلامة الوصول وتمام الشفاء، ويكون الدفع من مال المؤسسة على حساب عرق عمال المؤسسة التي تبخل قيادة مؤسستهم بمنح العمال علاواتهم ومستحقاتهم، بينما تكون سخية جدًا لدفع قيمة الإعلان للنفاق والتملق للمسؤول، لغرض انتهازي مصلحي وصولي.
 
 
 
ولنتأمل عيبـًا أخلاقيـًا آخر نعيش فيه كل يوم، وأعني به الاستعانة بالوساطة أو "الواسطة" هذا العيب المستفحل الذي نضجُّ منه جميعـًا بالشكوى حتى تؤدي ممارسته إلى اكتساب الآخرين منفعة على حسابنا ونتسابق جميعـًا للالتجاء إليه إذا كان يؤدي إلى اكتسابنا نحن أنفسنا نفعـًا على حساب الآخرين، هذه الوساطة أصبحت جزءًا مألوفـًا من حياتنا اليومية، إلى حد أننا لم نعد نجد فيها أي غضاضة، بل إنـها قد تفشت واستشريت إلى حدٍ أن من يمتنع بحكم مبادئه عن ممارستها أو عن الاستجابة لندائها أصبح يعد في ظر الناس متزمتـًا أو مغفل أو ننعتهم بقلة "الذوق" أو انعدام المروءة.
 
 
 
وهناك عاملان أساسيان في نظري هما أقوى الأسباب المؤدية إلى هذه الظاهرة أولهما : قيام العلاقات التي تمس المصالح العامة على أساس من المنافع المتبادلة، وثانيهما: امتداد سلوك التعامل العائلي أو الريفي أو المناطقي أو القبلي إلى المعاملات الرسمية التي ينبغي أن تتسم بالطابع اللاشخصي على الدوام، وكلا هذين العاملين لا يعالجان بالدعوة الفردية أو بالنصائح الشخصية، بل إنـه يحتاج إلى معالجة جذرية، وأن نتعلَّم كيف نفصل بين الأهداف الشخصية وبين العمل الرسمي الذي يعلو على الأشخاص وفي حاجة إلى أن نتذكر دائمـًا أنَّ الدولة لا يملكها أفراد بل يملكها الجميع، وأن حقنا في التصرف في أمورها مقيد بمصلحة المجموع لا بمصلحتنا نحن.
 
 
 
وأمام هذه العيوب الأخلاقية أليس من الأحرى بنا أن ننتهل الحلول من تراثنا الأخلاقي والحضاري والإسلامي، إذ أن شعبنا الجنوبي العربي الإسلامي لديه رصيد من الأخلاق في تراثنا الأخلاقي، فما أحرانا أن نعمل على استغلاله بقدر ما بوسعنا من جهد، فعلى أدنى المستوى بين أبناء شعبنا نجد من صفات المروءة والشهامة وحب الجار والمبادرة إلى نجدة الضعيف ونصرة المظلوم ما يمكن أن يكون نواة لنهوض أخلاقي رائع لو وجدنا أمامنا حكومة وطنية ليست فاسدة، وأعتقد أن هذه المرجعية الأخلاقية التاريخية لشعبنا العربي في الجنوب وعدن على وجه الخصوص، يمكن أن تكون نقطة بداية ارتقاء أخلاقي ومعنوي لا حد له.

مقالات الكاتب