لماذا تسجل التجارة العالمية مستوى قياسي رغم تباطؤ النمو؟
● تتجه التجارة العالمية إلى تسجيل مستوى قياسي، في مفارقة لافتة تعكس قدرة التدفقات التجارية على...
عندما يُكتَب تاريخ "خروج بريطانيا" في النهاية، ربما يصبح ربيع عام 2017 معروفا بكونه نقطة تحول، ولا سيما بالنسبة للجنيه الاسترليني.
لا مفر من الحقيقة التي مفادها بأن الجنيه عملة انخفضت قيمتها، وأصبحت أقل 14 في المائة من حيث الوزن التجاري النسبي منذ التصويت على "خروج بريطانيا" في حزيران (يونيو).
لكن عام 2017 شهد حتى الآن تنقل الجنيه عبر لحظات من الجيشان دون التعرض إلى مزيد من الأضرار الدائمة. وكان الأسبوع الماضي أنموذجا على ذلك. فقد انخفض الجنيه في بيانات الإنشاءات والتصنيع الضعيفة، ثم انتعش مرة أخرى بعد أن أصبح أداء قطاع الخدمات أفضل مما كان متوقعا.
عند نحو 1.24 دولار يكون الجنيه الاسترليني قد ارتفع مقابل الدولار للمرة الأولى منذ بداية العام. يقول سايمون ديريك، من "بي إن واي ميلون": "استوعب المستثمرون الأخبار المتعلقة بالمادة 50 - وكان هناك كثير منها - خلال مسيرتهم".
ومثل هذه المرونة تشير إلى أن التوقعات الكئيبة حول مستويات متدنية جديدة في مرحلة ما بعد "خروج بريطانيا" ربما تكون قد جانبت الصواب، علاوة على أن العملة لديها إمكانية أن تحقق انتعاشا كبيرا خلال الأشهر المقبلة.
هذه هي المعضلة الدائمة التي يواجهها المستثمرون والشركات، ولا سيما الذين يحتاجون إلى تنفيذ عمليات تحوط للعملة وحماية محافظهم الاستثمارية وإيرادات الشركات من التعرض لتقلب كبير في الجنيه خلال العام المقبل.
وفي الآونة الأخيرة، انقلبت توقعات المحللين التي كانت تميل قبل بضعة أشهر إلى التشاؤم، وتحولت إلى نظرة مستقبلية متفائلة بشأن الاسترليني.
في الوقت الذي يبدي فيه أمثال "بانك أوف أميركا ميريل لينتش" و"سيتي جروب" و"إتش إس بي سي" و"يو بي إس" و"كوميرز بانك" توقعات نهاية العام المتعلقة بالجنيه الاسترليني، التي تقع في نطاق 1.10 ـ 1.20 دولار، ويتوقع "دويتشه بانك" 1.05 دولار، تقع الأهداف المتوقعة لكل من "باركليز" و"إنفستيك" و"آر بي إس" و"دانكي" و"إم يو إف جي" ضمن نطاق 1.30 ـ 1.35 دولار.
هذه الاختلافات يمكن تلخيصها كالتالي: التوقعات المتدنية تعكس كراهية لحالة عدم اليقين المقترنة بمسألة خروج بريطانيا، والقلق إزاء تأثيرها في اقتصاد المملكة المتحدة والمخاوف المتعلقة بالعجز الضخم في الحساب الجاري.
والأساس الذي يعتمد عليه التفكير في أن الجنيه الاسترليني يمكنه القفز ليتجاوز مستوى 1.30 دولار - وهو مستوى تم اختراقه بشكل حاسم نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي – دليل على شعور بأن الصعوبات التي تواجهها المملكة المتحدة بسبب مغادرتها للاتحاد الأوروبي في غير محلها. علاوة على ذلك، وبحسب مقاييس متعددة، يبدو الجنيه جذابا والقوة الكامنة للاقتصاد سليمة.
من المؤكد أن الجنيه يبدو ذا قيمة جيدة. تقول مارسيل ضاهر، رئيسة قسم توزيع الأصول لأمريكا الشمالية في شركة مانيولايف لإدارة الأصول، التي تستثمر 350 مليار دولار: "الجنيه رخيص جدا مقابل الدولار الأمريكي على أساس معادِل القوة الشرائية".
وتضيف: "يركز معظم الناس على التداعيات السلبية المتأتية عن مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي. ووصل الأمر إلى حد يمكن أن يكون مثيرا للاهتمام، نظرا لانحرافه عن نماذج التقييم المتوافرة لدينا".
وفقا لـ "إم يو إف جي"، الجنيه الآن عند مستوى أقل من القيمة العادلة بـ 15 في المائة، في حين يقول مارفن بارث، من باركليز، إن الجنيه عالق عند النقطة الدنيا في معضلة آلية سعر الصرف الأوروبية التي حدثت عام 1992.
ويضيف: "يبدو هذا أمرا مبالغا فيه بالنسبة لحدث سيكون بالتأكيد بمنزلة ضربة لاقتصاد المملكة المتحدة، لكنه أمر سنشعر بتأثيره في مدى عقود من الزمن، وليس في القريب العاجل".
جيريمي كوك، كبير خبراء الاقتصاد في شركة تزويد المدفوعات "ويرلد فيرست"، يرى أن قيمة الجنيه هي بالتأكيد دون مستواها الحقيقي، لكن هذا لا يعني أن قيمته لن تنخفض أكثر. ويقول: "سيكون الجنيه عملة مزعجة جدا خلال العامين المقبلين، ما يزيد من فرصة صدور بيان خاطئ أو إشاعة يساء فهمها تؤدي إلى تراجع قيمته عن المكانة التي يمكن أن تكون مربحة وذات أجل أطول".
ويجري تداول الجنيه في بيئة تتسم بانخفاض التقلبات ويميزها المستثمرون على الأجل الطويل، الذين يخفضون تعاملاتهم على المكشوف، وليس المتداولون الذين يدخلون في تعاملاتهم على أساس ارتفاع السعر، في حين تبدي السوق قلقها حول الموعد المحدد الذي ستبدأ فيه المفاوضات.
يقول ريتشارد بيبي، رئيس قسم توزيع الأموال النقدية والمخاطر في العملات الأجنبية في "إتش إس بي سي": "لا تزال السوق تتعامل على المكشوف، ولا تزال تعتقد أن المخاطر هي على الجانب السلبي وتَجهَد في سبيل أن ترى المحرك المقبل". وهو يجادل بأن مثل هذه البيئة من التداول نادرا ما تفضي إلى اندفاع للجنيه الاسترليني.
بالطبع، يمكن أن يحاول الجنيه الصمود عند النطاق الذي يراوح بين 1.20 و1.30 دولار االذي استمر منذ تشرين الأول (أكتوبر) بعد إضافة، أو إزالة عامل الزيادة غير المتوقع.
لكن نظرة إلى شاشات المستثمرين تكشف عن سبب صارخ يفسر لماذا يمكن أن ينتهي هذا المأزق قريبا. عندما ينظرون إلى المسار المحتمل للجنيه مقابل إحدى أدوات التداول الموثوقة لديهم والأكثر استخداما، وهو متوسط التحرك البسيط، ينبغي لهم الشعور بالتوتر.
عندما يتجاوز السعر نطاق متوسط التحرك اليومي على 50 أو 100 أو 200 يوم، تكون تلك هي اللحظة التي يجب عندها تغيير استراتيجية التداول. ويبدو الجنيه مستعدا لتجاوز تلك المتوسطات البسيطة، رغم أن ذلك يكون في اتجاهات مختلفة.
إن انخفاض الجنيه إلى مستوى أقل من المتوسط على مدى 50 أو 100 يوم - نحو 1.2420 دولار - يلوح في الأفق بشكل كبير، لكن يمكن أن نقول إن الجنيه لديه رؤية تتعلق بالاتجاه الصاعد، بحيث يرتفع أعلى من المتوسط اليومي الأكثر أهمية على مدى 200 يوم - حاليا نحو 1.2646 دولار.
يقول ديريك هالبيني، من "إم يو إف جي": "نظرا للتحركات الكبيرة التي شهدناها بعد خروج بريطانيا، يمكن أن يحظى تجاوز المتوسط اليومي للتحرك على مدى 200 يوم بكثير من الاهتمام".
لذلك إذا كان الجنيه على وشك العثور على مستوى جديد، فما المسار الذي سيتخذه؟
المعضلة هي تلك التي تواجهها البنوك المركزية. فقد كشفت دراسة استقصائية شملت 80 مديرا للاحتياطيات عن أن نصفهم تقريبا غيروا رأيهم في الجنيه على المدى القصير، في حين قال نحو ثلاثة أرباعهم إن نظرتهم طويلة الأجل المتعلقة بالعملة لم تتغير.
وعمل تراجع قيمة الجنيه على جعله أقل جاذبية على المدى القصير، بحسب أحد مديري الاحتياطيات من آسيا، لكن "على المدى الطويل من المتوقع أن ينتعش اقتصاد المملكة المتحدة، لأن العوامل الأساسية للاقتصاد ثابتة ومتوازنة".
ربما ليس من المستغرب أن تأتي هذه اللحظة المحورية بالنسبة للاسترليني بعد تفعيل المادة 50 وبدء المفاوضات الرسمية مع الاتحاد الأوروبي حول مغادرة بريطانيا.
يقول بارث: "لم نصل إلى هذه المرحلة قط من قبل". وتم اعتبار خطاب تيريزا ماي المتعلق بـ "قرار خروج بريطانيا الصعب" في كانون الثاني (يناير) والمادة 50 على أنهما بشرى سيئة للمستثمرين "لكن في نهاية المطاف هي عبارة عن أخبار. وهذا يقلل من درجة مشاعر اللبس. وهذا يعد واحدا من الألغاز التي تواجهها الأسواق".
