في تمام السادسة من كل صباح، يستيقظ الحاج السبعيني "علي القرماني"، الذي يملك "معصرة الأمانة". ما إن يتجّه إلى فتح أبواب معصرته التقليدية لإنتاج الزيوت الطبيعية، يباشر عمله اليومي بمهمة "إغراز الجمل بالأعلاف"، بعد ذلك يبدأ الجمل بالدوران لتشغيل المعصرة قُرابة ثماني ساعات متفرّقة خلال اليوم الواحد، مُغمض العينين حتى لا يُصاب "بالدُوار"، نتيجة حركته الدائرية حول المعصرة طيلة الوقت.
ويستمر دورانه حول إناء مصنوع من الحجر، مملوء بكميات من حبوب السمسم، يجر خلفه خشبة سميكة، صُممت بعناية فائقة لتتحمل على متنها حجرا آخر من الرخام.
وعبر إدارة الجمل لتلك التجهيزات، يتم استخراج زيت السمسم الطبيعي، وأنواع أخرى من الزيوت، ذات الجودة العالية، لكن بكميات قليلة جداً، بحيث يصل إنتاج المعصرة في اليوم الواحد إلى "5" لترات تقريبا، كما أن أسعاره مرتفعة مقارنة بالزيوت ذات الجودة الأقل، التي تنتجها المعاصر الحديثة.
يقول القرماني ل"بلقيس": "المعصرة حقنا لها 500 سنة، توارثناها أباً عن جد، ومنذ زمان نشتغل في المعصرة هذه، ونتعيَّش منها طول عمر أُسرتي".
'موروث شعبي مهدد بالاندثار'
تعتبر المعاصر التقليدية للزيوت الطبيعية، التي تعمل بواسطة الجمال، جزءا من الموروث الشعبي، الذي تتميّز به مدينة صنعاء القديمة، وإحدى علامات الهُوية التاريخية للمدينة العتيقة. إذ وُجدت هذه المعاصر قبل حوالي '700' سنة، وفقاً لما هو شائع.
وتشهد هذه المعاصر إهمالاً كبيراً من قبل جميع السلطات، التي تعاقبت على حُكم اليمن، حيث تعرّضت غالبيتها للاندثار والإغلاق خلال مراحل زمنية مختلفة، بحسب بعض المعلومات المتداولة شعبياً.
يقول القرماني ل"بلقيس": "أتذكّر، كان به في صنعاء 70 معصرة بالجمال". حيث لا دراسات سابقة حول الموضوع إطلاقاً. وكانت تنتشر في كافة مناطق وحارات صنعاء القديمة وأسواقها، وحتى الآن لم يتبقَّ منها سوى ثماني معاصر فقط، نتيجة للإهمال وعدم صيانتها من قبل مالكيها أو من السلطات، كونها ذات موروث شعبي وتاريخي.
كما أن إغلاق بعض تلك المعاصر نهائيا يعود إلى الخلافات التي كانت تنشب بين الورَثة على أحقّية إدارتها، وما شابه ذلك.
"الحزيزي"، وهو رجل ستيني، يملك واحدة من المعاصر التقليدية، مازالت تعمل حتى اليوم، يقول ل"بلقيس": "الدولة مش مهتمة بالمعاصر ولا تُحافظ عليها، ولم تشجّعنا أبداً أو تهتم بنا، واحنا جالسين نشتغل، قد هي رزقنا، واحنا ورثناها من آبائنا وأجدادنا الأوّلين، يجي عُمرها 300 سنة".
جودة المُنتج
تستخدم المعاصر التقليدية حبوب السمسم ذات الجودة العالية،المزرُوعة في مناطق مختلفة من اليمن (أبين، حجة، الحديدة، صنعاء)، ويعتبر السمسم المزروع في محافظة أبين أجود الأنواع وأفضلها. ويُستخرج منه زيت السمسم، المعروف شعبياً بزيت "الجُلْجُل البلدي"، الذي يعتبر متميّزاً، لاستخدامه في أطباق الأكل، وكذلك في صناعة الأدوية، وكنوع من "التطبيب الشعبي".
يقول القرماني ل"بلقيس": "الزيت اللي نبيعه هانا، مش مغشوش، ويعتبر طبيعي ونقي، وما بش فيه مواد حافظة".
والكميّات التي تُنْتج في المعاصر التقليدية قليلة، ويصل سعر اللتر الواحد من زيت السمسم حوالي '6000' ريال يمني، أي نحو عشرة دولارات (سعر الصرف في مناطق سيطرة مليشيات الحوثي الانقلابية).
كما أن أهمّ ما يميّز منتجات المعاصر من الزيوت هو طريقة الاستخراج التقليدية.
إذ تقل جودة الزيت في المعاصر الحديثة، نتيجة تعرّضه لدرجة حرارة عالية داخل الآلات أثناء عملية الإنتاج، كما أنه يتعرّض لإضافة بعض المواد، التي تقلل جودته وفائدته وقيمته الغذائية.
فائز المهتدي (55 عاما) يقول ل"بلقيس": "أنا أشتري زيت لبيتي من تيه (هذه) المعصرة، لأنه صحي ونقي ومفيد، ونستخدمه بين الأكل وعلاج للبرد والزكام والحُمى"
غالبية مرتادي المعاصر التقليدية لشراء منتجاتها من الزيوت هي "النساء"، لاستخدامها زيوتاً للشعر، لأنها تحتوي على عناصر مفيدة وجيّدة لإطالة شعورهن والمحافظة عليها من التلف والتساقط.
عند باب معصرة "الأمانة" التقليدية، وجدت 'سمر بلال' تشتري حاجتها من زيت تلك المعصرة. سمر بلال (40 عاما)، قالت ل"بلقيس": "كلّنا في البيت نستخدم الزيوت اللي تبيعه المعاصر القديمة، وأكثر شيء ندهن به رؤوسنا، لأنه يغذّي الشعر ويُعالجه، ويحميه، وهذه الزيوت كلها علاج نستخدمها".
ولا يقتصر إنتاج تلك المعاصر على زيت السمسم فقط، بل يُنتج فيها أنواع أخرى من الزيوت مثل: "الترتر، والتوهم، واللوز المُر، والخِروع".
ووفقاً للقرماني يصل سعر "القدَح" ('30' كيلو من حبوب السمسم ال'أبْيَنِي') حوالي ثلاثين ألف ريال، أي ما يعادل خمسين دولارا.