صناعة الوعي المعرفي

صناعة الوعي مصطلح اخترعه المؤلف وواضع النظريات هانس ماغنوس إنتزنسبيرغر، وهو يحدد الآليات التي يتم من خلالها استنساخ العقل البشري كمنتج اجتماعي.
 
ومن أهم هذه الآليات هي مؤسسات وسائل الإعلام والتعليم. وحسب رأي إنتزنسبيرغر، لا تنتج صناعة العقل أي شيء محدد، فعلى العكس إن نشاطها الرئيسي هو تخليد وجود نظام هيمنة الإنسان على الإنسان.
 
ولقد كانت مسألة صناعة الوعي محل جدل واسع على مر التاريخ تطرق إليها معظم المفكرين والفلاسفة من الماديين والمثاليين ولا خلاف على أهمية صناعة الوعي وأثرها على ازدهار اقتصاديات المعرفة والاستثمارات الثقافية والمعرفية أو نكوصها.
 
أما صناعة الوعي المعرفي فيمكن القول إن وجود اقتصاد معرفي مرهون بوجود مجتمع معرفي ويمكن شرح ذلك بطريقة المعادلات الرياضية والقضايا المنطقية الشرطية فنقول إن وجود مجتمع معرفي وبيئة واعية لا يشترط أن يكون النظام الاقتصادي في ذلك المجتمع قائماً على المعرفة لكن العكس ليس صحيحاً؛ ولذلك لابد من الإجابة على سؤال صناعة الوعي في المجتمع.
 
والإجابة على هذا السؤال تحتاج العودة إلى النظريات الاقتصادية التي تدخلت فيها النظرية الفلسفية عبر العصور ومحاولة التوفيق بين الرأيين اللذين يختلفان في أن أحدهما يؤكد أن البيئة هي التي تصنع وعي الأفراد في حين أن الرأي الآخر يؤكد أن الوعي هو الذي يصنع الواقع أو يغيره.
 
إن الكيفية المناسبة لخلق بيئة واعية والتأسيس لمجتمع معرفي، كانت مرتبطة بمسألة صناعة الوعي ومحل جدل تاريخي، تجسدت في المثالية والمادية، فماركس يقول: «ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم).
 
وقد بدأ ماركس بدراسة المجتمع الإنساني من الواقع المادي الذي يعيش فيه. هذا هو الذي يحدد واقعنا الحي وليست الأفكار التي نؤمن بها هي التي تحدد ذلك، وعلى الرغم من ذلك هناك تفاعل معقد بين الواقع المادي والأيديولوجيات التي تبادر بشرح هذا الواقع.
 
أما هيجل فيرى أن الوعي هو ما يصنع البيئة المثقفة، والواقع المثالي، وهذا لدى هيجل، هو شرط تحصيل الوعي لدى الأفراد؛ وقد قال إنجلز معبراً عن الرأي الأول لماركس:»إن نمط تفكيرنا يختلف حسب وجودنا في قصر أوفي كوخ ).
 
ولأن الوقت قد يطول إذا أردنا الحديث حول اقتصاد معرفي بدون مجتمع معرفي أي أن الحديث عن الاستثمار في مجال المعرفة، بدون وجود وعي معرفي، وبيئة مثقفة متزنة في انفتاحها، ومتزنة في محافظتها، يعتبر مغامرة صعبة، تشبه البحث عن القبّعة في دُنيا العمائم خصوصاً إذا كانت البنى التحتية لصناعة الوعي غائبة.
 
لكن ورغم ذلك، يمكن إيجاد بدائل كثيرة، لتحقيق حالة أكثر وعياً وبيئة أكثر ثقافة، فالاستثمار أولاً يجب أن يشمل الجنسين ذكوراً وإناثاً مع التركيز على أن امتلاك أي بيئة لوسائل الحداثة، يجعلها قادرة على مهمة خلق الوعي عن طريق التحفيز على الوعي والتثقيف بالترغيب، والترويج لذلك باستخدام أدوات ومظاهر التحديث، التي تمتلكها.
 
ولعل دور الحكومة ومن يملكون زمام الأمور فيها مهم جدا في الجانبين جانب صناعة وعي معرفي وجانب التوعية بخصوص أجهزة الذكاء الاصطناعي وتوضيح دور المؤسسات التي تعمل بها وتستخدمها.
 
وتبرز التحديات الأهم التي يجب على الحكومات مجابهتها في حال أرادت تحقيق نظام اقتصاد معرفي حقيقي من خلال توليد المعرفة وخلق مجتمع معرفي في تطوير منظومة التعليم في مختلف مراحلها.
 
وإضافة العلوم التكنولوجية وتضمينها في مناهج الدراسة في كل مراحلها من المدرسة وحتى الجامعات والمعاهد لتتواءم مع معطيات العصر ومظاهره بما في ذلك أجهزة الذكاء الاصطناعي وكافة وسائل الاقتصاد المعرفي أو التي جاءت تلبية لتداعياته، غير ذلك ما يسمى بالمحتوى المعرفي، الذي يرتبط بقضيتي توفير الكوادر والاستفادة من التعاون الدولي؛ ولأن إنتاج المعرفة يتم من خلال ثلاثة أنشطة هي البحث العلمي، التطوير التقني، والابتكار؛ فإنه يتوجب مضاعفة أنشطتها في جميع القطاعات، بشرط أن تتوافق مخرجاتها مع متطلبات الاقتصاد الوطني.
 
ويحتاج هذا إلى تكثيف الجهود الخاصة ببناء القدرات الضرورية لاستيعاب المعرفة والعمل على حضورها، وزيادة حجم موارد البحث والتطوير والابتكارات المادية والبشرية، والتوسع في البحوث التطبيقية، وفي الابتكار والاهتمام بالمعارف؛ بعد هذا يمكن الحديث عن تحويل ثروة التعليم والتدريب والبحث والتطوير إلى معرفة، فيجب دعم الاستثمار وزيادته للأنشطة المعرفية لدى القطاعين العام والخاص، وتنمية الموهبة والإبداع وزيادة برامجها؛ وفي جانب إدارة المعرفة يجب رسم خارطة طريق بالتنسيق بين الجهات ذات العلاقة، وتبني نظم إدارة المعرفة.
 
وتوفير حِزم متنوعة من الحوافز للاستثمار في الأنشطة ذات الصلة بالمعرفة، وتطبيق معايير الجودة بغرض الارتقاء بجودة العمل، واعتماد مؤشرات رقمية لقياس التقدم المنجز؛ وسيكون على الحكومات أيضا تعزيز اهتمام المواطن بالمعرفة ومصادرها، وزيادة الوعي بأهمية العمل الجماعي وسيادة روح الفريق، إذ من دون ذلك سيكون من الصعب إنتاج المعرفـة الحديثة.
 
إننا نتوسم خيراً فيما بدأته دولة الإمارات العربية من خطوات جبارة في هذه المجالات وفِي انتظار أن تحذو حذوها باقي الدول العربية، وللحديث بقية..
 
* مستشارة اقتصاد معرفي

مقالات الكاتب