المدن الصناعية وانطلاقة الاقتصاد المصري

لم تكن زيارتي دمياط هي الزيارة الأولى لتلك المحافظة المصرية المتميزة، وإنما سبقتها زيارات عديدة لأسباب مهنية وشخصية متنوعة، لكنها كانت المرة الأولى التي أذهب إليها عبر طريق محور 30 يونيو الجديد، الذي يربط بين طريق القاهرة- الإسماعيلية، ومحافظتي بورسعيد ودمياط.

الطريق الجديد اختصر ساعة تقريباً من مدة السفر المقررة إلي محافظة دمياط، لنصل إلي مدينة الأثاث الجديدة التي تقع في الظهير الصحراوي للمحافظة، وتحديداً في منطقة شطا وعزبة البرج. هناك كانت الخطوة الأولى للتحول الصناعي الضخم الذي تشهده مصر خلال المرحلة المقبلة، من خلال افتتاح مجموعة من المدن الصناعية المتخصصة في صناعات بعينها لأول مرة في مصر، والتي سوف يتم افتتاحها تباعاً خلال الفترة المقبلة، لتتبوأ الصناعة مكانتها التي تستحقها في قيادة الاقتصاد الوطني.

دمياط إلى جوار كونها أشهر مدينة لصناعة الأثاث في مصر والعالم العربي وإفريقيا فهي تقع في موقع شديد التميز، لأنها تطل على البحر المتوسط، وميناء دمياط يعد أهم الموانئ المصرية، حيث يستوعب نسبة كبيرة من حركة التجارة الداخلية، وبه محطة ضخمة للحاويات تعد إحدى أهم المحطات في المنطقة.

كل هذه المقومات جعلت من محافظة دمياط محافظة لها طبيعة خاصة تجمع كل مقومات التفوق الصناعي والتجاري والسياحي للانطلاق خلال المرحلة المقبلة.

البداية كانت من مدينة دمياط الجديدة للأثاث التي افتتحها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهي الزيارة الثانية التي يقوم بها الرئيس إلى محافظة دمياط، حيث زارها في العام قبل الماضي، حينما افتتح العديد من المشروعات الخدمية فيها، ووضع حجر الأساس لمدينة الأثاث، التي تم افتتاحها خلال الزيارة الأخيرة.

المعروف أن صناعة الأثاث من الصناعات كثيفة العمالة التي تستوعب أعداداً كبيرة من العمالة وترتبط بالعديد من الصناعات المغذية لها مثل الدهانات والمفروشات.

 

المدن الصناعية المتخصصة هي تطوير لأفكار ومحاولات سابقة لم تكتمل، لأنها لم تكن مخططة بتلك الطريقة الحديثة والمتطورة مثلما حدث في منطقة المدابغ بسور مجرى العيون، ومصانع الغزل والنسيج في شبرا الخيمة والمحلة.

الجيل الجديد من المدن الصناعية المتخصصة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي عبارة عن مناطق صناعية متكاملة بعيداً عن الاشتباك مع المناطق السكنية أو الاعتداء على الأراضي الزراعية، كما أنها تراعي ظروف التوسعات المستقبلية، وتم تخطيطها وتشكيل شركات متخصصة لإدارتها لتذليل كل العقبات التي تعترض المستثمرين والمنتجين، وتمنع كل التشابكات والعشوائيات التي قد تظهر هنا أو هناك.

نجاح التحول الصناعي الضخم في المرحلة المقبلة يتطلب إقامة العديد من تلك المدن الصناعية المتخصصة على غرار ما حدث في مدينتي الأثاث والجلود، بما يسهم في رسم خريطة صناعية متطورة وحديثة، ويؤدي إلى دمج الاقتصاد غير الرسمي لعدد هائل من الورش والصناعات الصغيرة في الاقتصاد الرسمي، لتلبية احتياجات السوق المحلية، ورفع نسبة الصادرات الصناعية إلي أضعاف معدلاتها الحالية.

كل هذه الخطوات سوف تؤدي حتماً إلي استيعاب الملايين من فرص العمل، وتحويل الاقتصاد المصري من الاقتصاد الريعي القائم علي الخدمات، والسياحة، والتجارة، إلى الاقتصاد الإنتاجي الذي تلعب فيه الصناعة دوراً محورياً ورئيسياً.

الاهتمام بالأجيال الجديدة من المدن الصناعية المتخصصة والتوسع فيها لا يعني أبداً إهمال الصناعة في المناطق القديمة، وإنما يسير الاهتمام بالتوازي، ودون أن يجور أي منهما على الآخر.

حدث هذا في اليوم التالي لافتتاح مدينة الأثاث، حينما أطلقت الحكومة بالتعاون مع البنك المركزي مبادرة لدعم وتمويل الصناعة بقيمة 100 مليار جنيه، من خلال حزمة من الإجراءات التي من شأنها الإسهام في زيادة الإنتاج، والارتقاء بالصناعات الصغيرة والمتوسطة، وإنهاء المشكلات التي تواجه المصانع المتعثرة لكي يعاد تشغيلها مرة أخرى.

المبادرة الجديدة سوف تحدث حراكاً ضخماً في قطاع الصناعة وهي بمنزلة حجر ضخم تم الدفع به لتحريك مياه الصناعة الراكدة نتيجة الظروف الاستثنائية الصعبة التي واجهتها الصناعة المصرية بعد 2011 نتيجة الفوضى والانفلات الأمني، وتوقف عجلة الصناعة والإنتاج فترات طويلة.