روسيا اليوم
تعاني الطبقة الوسطى في مصر من مشكلات متفاقمة، وأوضاع تزداد صعوبة بعد الإجراءات الاقتصادية الأخيرة، التي أعقبت قرارات تحرير سعر صرف الدولار، وتعويم الجنيه المصري.
وقد أعرب عن ذلك بصدق الكاتب عمرو عبد السميع في مقالته المنشورة بصحيفة "الأهرام" شبه الرسمية حين أوضح أن "الطبقة الوسطى هي محرك أي نهضة وتقدم، وإرهاقها على هذا النحو يؤدي إلى قعودها وفشلها على نحو كبير، وتنتفي حينذاك أي صفة عن "عملية الإصلاح" وتتحول إلى بقرة مقدسة، والتي ضحينا بالطبقة الوسطى من أجلها، كي تنجح العملية".
هذا العسف بالطبقة الوسطى يحدث ردود أفعال متباينة في المجتمع المصري تناولها عبد السميع في مقاله المشار إليه، حين قال إن "مما يكيد ويغيظ المواطنين في المرحلة الحالية أن يجدوا أنفسهم يدفعون ثمنا غاليا جدا، بينما المليارديرات نجحوا في مراكمة قدر هائل من الأموال، لم يحدث في أي مرحلة أخرى".
هكذا تبدو الأحوال في مصر اليوم منذ تحرير سعر الصرف في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وسلسلة من الأزمات تضرب المجتمع المصري، سواء عبر الارتفاعات المتتالية للأسعار أو استغلال التجار للأزمات، ومضاعفة أسعار السلع، التي اختفت معظمها من الأسواق، من جراء استئثار الجشعين من التجار بها، تمهيدا لبيعها بأسعار مضاعفة، بعد "تعطيش السوق" بحسب الوصف المصري.
وهذه الأزمات لم تتوقف فقط عند حدود ارتفاع الأسعار، بل كان قرار تعويم الجنيه المصري بداية حرب فعلية في الشارع وصل حد تأثيرها المباشر إلى العديد من الصناعات الضرورية والملحة، التي كانت أُخراها صناعة الدواجن، والتي شكلت حلقة من سلسلة حلقات، تعانيها الصناعة الوطنية. فأزمة الدواجن، سبقتها أزمات أخرى، ألقت بتداعياتها على المواطن المصري، وفي المقدمة منها أزمة الدواء؛ حيث ارتفعت أسعار الأدوية بشكل جنوني. فيما اختفت العديد من الأدوية الهامة، وعلى رأسها أدوية السكر والضغط والقلب وغيرها. وهناك أيضا أزمة حليب الأطفال، التي تعقدت بشكل كبير؛ ما دعا القوات المسلحة إلى التدخل لحل المشكلة واستيراد كميات هائلة من "لبن الأطفال" من الخارج، وتحمل كلفة نصف ثمنها.
وفوق كل ذلك، ضربت الأسواق أزمات السلع الضرورية كالزيت والسكر والأرز وغيرها من السلع الاستراتيجية. وذلك في إطار منظومة واحدة تبذل الحكومة جهوداً فائقة للتغلب عليها من دون جدوى حتى اللحظة. ذلك في الوقت الذي ترى فيه أوساط حكومية أن قرار تعويم الجنيه، كان مسألة ضرورية وملحة، لكي ينهض الاقتصاد المصري من عثرته، وينجح في جذب المستثمرين وتشجيع السياح على العودة إلى البلاد. وذلك في الوقت الذي تعترف فيه المصادر الحكومية نفسها بأن تحرير سعر الصرف ثم تعويم الجنيه كانت لهما جوانب سلبية للغاية على معيشة المواطنين المصريين. فبارتفاع سعر الدولار بما يعادل 120 في المئة أمام الجنيه المصري، تزايدت أعباء المستثمرين في استيراد العديد من السلع من الخارج، ومن بينها الدواجن، حيث تضاعفت أعباء المستوردين في استيراد الأعلاف، وهو ما سيترك أثره علي سعر البيع من الدواجن للمستهلك العادي، ثم كان القرار الحكومي - قبل أيام - بإعفاء الدواجن المستوردة من الجمارك بهدف خفض تكلفة الاستيراد.
لكن القرار، وبالرغم مما ذهبت إليه الجهات الحكومية من تفسير، كانت له تأثيراته السلبية على صناعة الدواجن في البلاد، خاصة أن في صناعة الدواجن يعمل 2,5 مليون عامل ينفقون على عشرة ملايين مصري، فيما يبلغ حجم الاستثمارات في هذه الصناعة نحو 65 مليار جنيه، وهو المأزق الذي وجدت الحكومة المصرية نفسها أسيرة لتداعيات، بعد الغضب العارم في الشارع المصري، الأمر الذي دفعها إلى الاجتماع السبت 03/12/2016 برئاسة رئيس الحكومة شريف إسماعيل، وذلك لبحث تداعيات ومطالب منتجي الدواجن حول قرار إعفاء الدواجن المجمدة المستوردة من الضرائب الجمركية الذي صدر الاثنين الماضي 28/11/2016، والذي يقضي ببدء سريان تطبيقه من العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وحتى الحادي والثلاثين من مايو/أيار 2017.
هذا الاجتماع العاجل، والذي شارك فيه وزراء الزراعة والمالية والتموين طرح إمكان التراجع عن القرار. وقد أيدت وزارة المالية هذا التراجع، بعد ان رفض القطاع الخاص استيراد الدواجن لصعوبة توفير الدولار، فضلاً عن عدم كفاية المدة المحددة، وذلك إثر تقدم منتجي الدواجن بمذكرات إلى رئيس مجلس الوزراء تفيد بتأثر استثمارات بـ 60 مليار جنيه، تغطي نحو 90 في المئة من احتياجات السوق المحلية من الدواجن.
وجاءت أزمة إلغاء رسوم الدواجن المجمدة والمستوردة وسط أنباء عن استقبال جمارك الإسكندرية، في الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، شحنة من الدواجن المجمدة تزن سبعين طناً، لشركة "ميديتريد" وكذلك ستة آلاف طن لشركتي "مالتي تريد" وشركة"ميدي تريد"، وهي شركات تتبع بعض الجهات الهامة، والشخصيات النافذة، وهو ما أثار الكثير من علامات الاستفهام حول بواعث إلغاء الجمارك على الدواجن المجمدة المستورة وبأثر رجعي كذلك.
وفي مقابل ذلك، شهد سوق الأدوية البيطرية نقصاً شديداً في عدد الأصناف الحيوية، وذلك في أعقاب تحرير سعر الصرف، وارتفاع سعر الدولار إلى أكثر من الضعف، نتيجة توقف استيراد المواد الفعالة التي تعتمد عليها شركات التصنيع، سواء الحكومية أو الخاصة، الأمر الذي أدى إلى عدم توفر الكثير من الأدوية في الوحدات الحكومية، وفتح المجال أمام تجار السوق السوداء للتلاعب في أسعارها.
وفي السياق نفسه، أثرت قرارات تحرير سعر الصرف على تكاليف إنتاج الإسمنت في البلاد، وقد بدا ذلك واضحا في إعلان المجموعة الإيطالية "إيتالسمنتي" عن وقف "فرنين" لديها في مصنعي حلوان وطرة بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج، بينما حذرت "الشركة القومية للإسمنت" من التعرض لنفس المصير.
وفي محاولة من جانبها للتغلب على الأزمات التي ترتبت على تحرير سعر الصرف، تتجه الحكومة المصرية إلى فرض ضريبة تصاعدية نهاية العام الحالي؛ حيث تدرس وزارة المالية حاليا أسلوب تطبيقها، فيما ذهبت كذلك إلى زيادة قيمة الدعم المقرر للفرد الواحد في بطاقة التموين، والذي بلغ واحدا وعشرين جنيها للفرد منذ بداية شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري، فيما تتواصل عملية تنقية بطاقات التموين ممن لا يستحقون دعمها، بحسب مصادر في وزارة التموين ووزارة الإنتاج الحربي. إذ تستهدف عمليات الحذف نحو ثلاثين مليون بطاقة تموينية، من بين العدد المقدر بـ 82 مليون بطاقة، كما تمت زيادة عدد المستفيدين من برنامج "تكافل وكرامة" إلى مليون وسبعمئة وخمسين ألف مواطن، بتكلفة إضافية بلغت 2,5 مليار جنيه، حيث ترى الحكومة أن تحقيق العدالة الاجتماعية ضمن أولوياتها، وهي إجراءات قد تسهم في التخفيف من حدة الأزمة، لكنها لا تبلغ حد التقليص من آثارها وتداعياتها الفعلية.