كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحاً، حين ولجتُ منزل القاضي محمد بن إسماعيل العمراني برُفقة مجاهد السياني (أحد طلابه)، وفي المكان الذي خصصه العمراني بمنزله لاستقبال الزوّار، حيث يجلس دون قدرة على الوقوف بمفرده، بادلته التحية وبصوت خفيض رد "حياكم الله".
يبدو جسده شائخاً، وقد تجاوز عمره قرنا وعامين، لكنه ما يزال حاضر البصر والبصيرة، ذا سمع جيّد، وذاكرة مُتقدة.
أبدى العمراني عبر "بلقيس" حرصه الشديد على أبناء الشعب اليمني، وحثّهم على عدم الاقتتال خلف أيٍ من الشعارات المذهبية والطائفية.
لم يطل الحديث معي أكثر من دقيقتين، بصوته المُتعب، بعدها ظل يسمع حديثي مع تلميذه "مجاهد السياني"، أكثر الناس إلماماً بتفاصيل مهمّة في حياة القاضي، الذي ظل مُلازماً له طيلة أربعة عقود، ويتردد عليه يومياً.
لقد ظلت إيماءات رأسه طيلة اللقاء، تأكيداً لصحة الوقائع التي رواها السياني "لبلقيس" عنه.
مراحل توقفه عن برامج كثيرة
قبل نحو عام ونصف، توقف القاضي العمراني عن الخروج إلى مسجده، حيث لم تعد قدماه تقوى على حمله، وبات يحتاج إلى من يسنده للوقوف أو المشي بضعة أمتار.
في جامع 'الزبيري'، وسط العاصمة صنعاء، استقبل القاضي العمراني ملايين الاستفسارات في مواضيع: الدين، الفقه، الشريعة، المواريث، العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وحتى السياسية، حيث أفتى فيها وفق المذاهب الأربعة، باعتدال ووسطية.
في الجامع نفسه، الذي اشتهر لاحقاً باسمه، تعلم مئات الطلاب من مختلف المشارب على يديه دروسا مكثفة في كافة العلوم الشرعية والفقهية واللغوية، فمنحهم على ضوء ذلك إجازات في الإفتاء.
الجلطة أثرّت على صوته
واستمر العلّامة العمراني في هذا البرنامج اليومي (تعليم الطلاب الذين يفدون إلى مسجده) حتى توقف عن ذلك في العام 2011م، نظراً لسوء وضعه الصحي، نتيجة إصابته بجلطة في رجله اليسرى، أثرت بصورة بالغة على حبال صوته، وأخفضته كثيراً، الأمر الذي استدعى الأطباء لتوجيهه إلى عدم استخدام صوته بكثرة، خشية حدوث مضاعفات صحية، بينما استمر في استقبال الفتاوى، التي كانت تصل إلى مسجده بصورة يومية، والرد عليها خطياً.
منذ قرابة العام، صار يصادق عليها فقط، حيث أوكل العمراني مهمّة الإفتاء لأحد طلابه، يدعى "القاضي محمد نعمان الصلوي"، وهو رجل في السابعة والثلاثين من عمره، حصل على "إجازة الإفتاء" في العام 2005م.
يقول الصلوي ل"بلقيس": "أنابني القاضي العمراني عنه في الإفتاء قبل حوالي عام، وأمرني بأن أنقل عنه كل ما علمني إياه من علوم شرعية، وفقهية، وحثّني على اتباع منهج الوسطية والاعتدال في التفسير للناس أمور دينهم ودنياهم، من خلال الرد على استفتائهم".
ويستقبل الصندوق المخصص للفتاوي عشرات الرسائل، التي تتضمّن استفتاءات حول قضايا الناس، من كافة ربوع الوطن بصورة يومية.
يقول السياني ل"بلقيس": "أتولى مهمة جمعها ونقلها للقاضي الصلوي للإفتاء فيها، ثم أخذها للقاضي العمراني في منزله للمصادقة عليها، ثم أعيدها إلى المسجد لأصحابها".
ويعدّ القاضي العمراني من كبار علماء اليمن المعاصرين، والمجتهدين. وله عدة مؤلفات، أبرزها: "المغني في علم الفرائض، زاد المتقين من مناسك وفتاوى الحجاج والمعتمرين، نظام القضاء في الإسلام".
ويحظى بتقدير رفيع عند كافة شرائح المجتمع اليمني، مُذ ذاع صيته عالماً، وفقيهاً، وشيخ علم.
ضايقته المليشيات
أواخر العام 2019م، توقف القاضي العمراني عن الحضور لأداء الصلاة في مسجده نهائياً، الذي ظل يتردد عليه قرابة 35 عاما. لم يكن الوهن وتقدّمه في السن هما السبب الرئيسي وراء انكفائه داخل منزله.
وقبل توقفه واجه العديد من المضايقات من قبل عناصر مسلحة تابعة لمليشيا الحوثي الانقلابية، في إطار سيطرتها على المساجد وفرضها خطاباً طائفياً متطرفاً، من خلال تلك المنابر الدّينية.
ذات جمعة، من العام 2018م، ودون سابق إنذار، اعتلى منبر المسجد مسلح حوثي، وفرض نفسه خطيباً بالقوّة قبل صعود الخطيب الرسمي. يقول السياني ل"بلقيس": "قبل الخطبة حاولنا معرفة من يكون هذا الشخص، وعرّف بنفسه أنه عدنان المضواحي، مدير عام المساجد المعيّن من الحوثيين. وفور صعوده المنبر بدأ بمهاجمة القاضي العمراني".
وأضاف: "حينها قال القاضي لنجله: خلاص.. روّحوني بيتي".
في وقت سابق من العام 2014م، أثارت فتوى للقاضي العمراني استياء جماعة الحوثي، والتي تنص على: "عدم جواز قتال المسلم لأخيه المسلم، وأن الحرب فتنة".
وتعامل الحوثيون مع الفتوى كما لو كانت استهدافا مباشرا لهم، فبدأوا بأذيّته.
بعد سيطرتهم على صنعاء وانقلابهم على الرئيس الشرعي، أصدروا أمرا بعزل القاضي العمراني من منصب "مُفتي الديار اليمنية"، واستبداله بشخص مُقرب منهم، في أبريل من العام 2017م.
مطلع العام 2018م، زاره الصماد (رئيس المجلس السياسي التابع مليشيا الحوثي الانقلابية.. قتل بغارة جوية) برفقة "حسن زيد" (أغتيل مؤخرا من قبل مجهولين)، الوزير في حكومة المليشيا، إلى مسجده، وطلبا منه تأمين مكتبته التي تضم نحو 54000 عنوان. لكن العرض كان متأخراً، حيث سبقته إليها أياديهم. وبحسب "السياني" :"كانوا قد نهبوا المكتبة قبل زيارتهم للقاضي. وطلبهم تأمينها هو بمثابة شرعنة للاستحواذ والسيطرة عليها، والمكتبة هي في الجامعة القديمة".
المصدر : قناة بلقيس - كريم حسن