اختبار العولمة

خلال العقدين الأخيرين انتقل أكثر من مليار من البشر من الفقر إلى اليسر في الطبقات والشرائح الاجتماعية الوسطى خاصة في الصين والهند.

وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون فإن أحوال العالم أفضل الآن عما كانت عليه قبل عقود، وبالتأكيد قبل قرون، حيث ارتفعت مستويات المعيشة في دول كثيرة، وتراجعت معدلات حدوث المجاعة، والأوبئة.

ولم يكن لذلك أن يحدث لولا الثورة العلمية والتكنولوجية، وتزايد الثروات في الدول، والأهم من هذا وذاك، وربما باستثناء منطقة الشرق الأوسط، تراجع الصراعات الدولية والحروب.

ومنذ انتهاء الحرب الباردة (١٩٨٩) وانهيار الاتحاد السوفييتي (١٩٩١) فإن العالم شهد ظاهرة «العولمة» التي كانت استجابة لما بات لأسباب كثيرة أن العالم قد بات «قرية صغيرة»، حيث الاتصال والانتقال للبشر سهل، وللسلع والبضائع إمكانية متاحة، وللقيم الخاصة بالحرية والديمقراطية شائعة بين الدول والأمم.

نشأ بين مواطني العالم ما سمي بمجموعة من المصالح المشتركة التي تطلب لتنظيمها مؤسسات دولية ترعاها، فقامت منظمة التجارة العالمية لكي تنظم حركة انتقال المنتجات؛ وتولت مؤسسات وشركات دولية متعددة الجنسية تحويل العالم كله إلى مصنع واحد.

استمر هذا الحال خلال العقدين التاليين بعد ما جرى في مطلع تسعينيات القرن الماضي من أحداث غيّرت من طبيعة النظام الدولي حتى جاء العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين لكي تشهد الدنيا تراجعاً في كثير من الأمور التي صارت بديهية.

حرية التجارة حل محلها حرب تجارية بين الولايات المتحدة والصين، وما كان ينادي به من «أخوة إنسانية» سرعان ما تحول إلى أسوار وحواجز في الانتقال من بلد إلى آخر.

وفي واحد من مقالاته في العام الماضي أعلن «فرانسيس فوكاياما» أن ما نادى به قبل ثلاثة عقود تقريباً من «نهاية التاريخ» عند حافة الليبرالية والديمقراطية والرأسمالية كان خطأ، وأن من كان على صواب كان «صمويل هنتنجتون» الذي تنبأ بصراع الحضارات.

أخذ العالم في الانقسام مرة أخرى إلى أمم ذات «هويات» دينية ووطنية مختلفة ومتناقضة ومتنافسة ومتصارعة أيضاً. وحتى ما بدا مصلحة مشتركة كبرى مثل سلامة الكرة الأرضية من الاحتباس الحراري على سبيل المثال، سرعان ما وجد من ينقضون دلائله، وبعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس المنظمة لمقاومة تدهور أحوال الكوكب باتت مواجهة المشكلة مستحيلة.

 

عقد كامل مضى قدم الكثير من العلامات والإشارات على تراجع العولمة في كل صورها المؤسسية والقيمية، حتى جاء «فيروس كورونا» لكي يقدم نوبة صحيان للبشرية كلها أنه لا يمكن مقاومة المرض وانتشاره بين الدول دون توافق دولي وعالمي على مقاومة المرض وعلاجه والتقليل من آثاره.

وكما هو معروف فإن المرض بدأ في الصين، ولا يزال فيها أكبر عدد من الضحايا (١٧٠٠ حتى وقت كتابة المقال).

ولأن الصين هي الدولة الثانية في الاقتصاد العالمي فإن روابطها مع كل دول العالم كبيرة. وهكذا فإن الصينيين الذين يتجولون في دول العالم لأسباب تجارية، والزوار للمدن الصينية لأسباب تجارية أيضاً سرعان ما أصبحوا وسائل لنقل العدوى حقيقة أو محتملين.

أصبحت الطائرات مشكوكاً فيها، والسفن الحاملة للسائحين سبباً للذعر من نقل الفيروس.

لم يكن هناك بد من التعاون الدولي لكي تتم محاصرة المرض ومقاومته ومنعه من الانتشار. ولأسابيع منذ بدأت أول علامات المرض في الظهور فإن «منظمة الصحة العالمية» التابعة للأمم المتحدة باتت في مقدمة نشرات الأخبار العالمية، لأنها تقدم للعالم تقريراً عن تطورات المرض، وانتشاره، ونصائح تجنبه، والأهم من ذلك كله كيف يمكن الوقاية من المرض ومعالجته.

الدول لعبت دوراً مهماً فلم يعترض أي منها على الإجراءات الواجب اتخاذها في مطاراتها وموانئها استناداً إلى ضرورات السيادة، وقدمت الصين مصداقية كبيرة في نشر أخبار تطورات المرض، وأكثر من ذلك بادرت إلى عزل المدن والأقاليم التي أصيبت بالكارثة، وزودت بقية العالم بالمعلومات عن فيروس كورونا ومعه المعلومات اللازمة للتعامل معه، كما أنها قادت الحملة العالمية لتخليق اللقاح والعلاج.

ولم تكن الصين وحدها في الميدان حتى تبارت دول العالم المتقدمة وغير المتقدمة في البحث عن طرق مقاومة المرض وإتاحتها لبقية البشرية. أصبحت «العولمة» حاضرة مرة أخرى في الإصابة والمقاومة والعلاج.

* كاتب صحافي

مقالات الكاتب