أكد الفنان التشكيلي والباحث في التراث الثقافي اليمني محمد سبأ أن الهجرات المتبادلة منذ أقدم العصور ما بين اليمن ودول القارة الأفريقية، أدت إلى انتقال الكثير من عناصر التراث الثقافي بين دول القارة الأفريقية واليمن، وقال في دراسته التي شارك بها في المؤتمر الدولي "الفن الإفريقي أيقونة الإبداع الإنساني" بعنوان "اليمن وأفريقيا جسور التواصل الفني والثقافي" والذي شاركت به مع مجموعة من أساتذة الفنون والثقافة في الوطن العربي وأفريقيا وأقيم أخيرا في أكاديمية الفنون في القاهرة "نقل هؤلاء المهاجرون الكثير من عناصر الثقافة الشعبية إلى البلدان الجديدة والعكس صحيح".
وأضاف "هناك هجرات أفريقية كثيرة استقرت في اليمن ولا يعرف على وجه التحديد متى بدأت هذه الهجرات إلا أن الكثير من الباحثين يعتقدون أن أول هذه الهجرات بدأت عندما تهدم سد مأرب القديم في اليمن، فانتقلت الكثير من القبائل اليمنية إلى السواحل الأفريقية المقابلة لسواحل اليمن، ومنها إلى مناطق عديدة في القارة الأفريقية.
وهناك أسباب أخرى ساهمت في هذه الهجرات بين الطرفين مثل التجارة التي عرف بها اليمنيون منذ القدم كتجارة البخور والتوابل، ومن أسباب الهجرة أيضاً الجفاف والحروب التي كانت تشتعل بين القبائل في جنوب الجزيرة العربية "اليمن"، أو في الجانب الأفريقي واستمرت الهجرات المتتالية بين اليمن وشرق أفريقيا، منذ عصور موغلة في القدم, وكانت هذه الرحلات سبباً، في أول اندماج بين العنصر الأفريقي والعربي عند إقامة السبئيين عددا من المدن التجارية في الحبشة، ثم تلاها حكم الحبشة لليمن قبل الإسلام.
وأشار سبأ إلى أن اليمن قديما كانت تسمى بأرض الآلهة وكانت تصدر البخور والمر واللبان والتوابل، إلى الكثير من معابد أفريقيا، وخاصة معابد الألهة المصرية القديمة، ومازالت الكثير من الشواهد المادية موجودة في كل من المتاحف اليمنية والمصرية، فقد وجدت في اليمن عدد من القطع والتحف المهداة من ملوك مصر إلى ملوك اليمن القديم، أشهرها معثورات جبل العود وسط اليمن. وأما أشهر الشواهد الأثرية في مصر، تابوت التاجر اليمني "زيد إل" الذي كان يجلب البخور من اليمن إلى معابد الآلهة في مصر القديمة، وقد عثر على تابوته بالقرب من هرم صقارة حيث كرمه ملوك مصر بأن دفن في مقابرهم، وكتب على تابوته، بخط المسند اليمني القديم، الوظيفة التي كان يقوم بها.
ورأى أن التواصل الثقافي والفني لم يقتصر على الجانب المادي فقط فهناك الكثير من القصص والسير الشعبية، المتداولة بين اليمن ومصر، وأشهرها سيرة سيف بن ذي يزن وأسطورة "الملاح الغريق" وسيرة الفارس الكرار والبطل المغوار وقصة معاذ بن جبل وفتوح اليمن، وأغلب هذه الحكايات والسير تم تأليفها في مصر بعد الفتح الاسلامي، ومنها ما هو أقدم من ذلك مثل أسطورة "الملاح الغريق" التي توثق الرحلات المصرية القديمة لجلب البخور من اليمن والتي كانت ترسل كل أربعة أشهر كما ورد في الاسطورة.
وقال سبأ "من أشهر الآثار المادية التيس تدل على عمق التواصل الحضاري بين مصر واليمن ما تؤكدة جداريات رحلات الملكة حتشبسوت التي تصور ملك بلاد بونت ببشرته القمحية وهو يرتدي الخنجر اليمني والزي اليمني القديم مما يدل على أن الرسام المصري القديم كان يقصد به ملوك اليمن وليس ما ذهب إليه بعض الباحثين بأن بلاد بونت هي الصومال.
وأكد أن التواصل الثقافي والفني بين اليمن وأفريقيا وصل ذروته في فترة الفتح الإسلامي والذي كان له الأثر الكبير في اندماج عناصر الثقافة الشعبية ليس في مصر فقط، بل في أغلب دول أفريقيا، حيث كان اليمنيون هم رواد تعليم اللغة العربية في هذه الدول التي استوطنوها ونقلوا معهم لهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ومنهم من عاش واستوطن في دول شرق أفريقيا ومصر والسودان ودول المغرب العربي، وليس هذا فقط فقد كانت هناك هجرات عكسية من هذه الدول الأفريقية إلى اليمن، كما في فترات الحكم الفاطمي والأيوبي الذي امتد من مصر إلى اليمن، ولا عجب أن نجد تشابها كبيراً في عادات وتقاليد ولهجات هذه الدول مع عادات وتقاليد ولهجات اليمن، فقد كانت اليمن ودول الجزيرة العربية هي المنبع الأول لهذه اللهجات.
وعلى العكس أيضاً لا غرابة أن نجد العناصر الثقافية الأفريقية أيضا في اليمن، فقد عاد الكثير من هؤلاء المهاجرين إلى بلدهم الأم ونقلوا معم الكثير من عناصر الثقافة الشعبية الأفريقية إليها، ولا تخلو اليمن من عائلات من أصول أفريقية أستقرت فيها، منها على سبيل المثال الحبشي والصومالي والإرتيري والمغربي والمصري والنوبي، وقد نقلت هذه الهجرات الكثير من عناصر الثقافة الشعبية إلى اليمن، ولا عجب أن نشاهد في الجانبين الكثير من التشابه في عناصر الثقافة الشعبية كالرقصات والعادات والتقاليد المشتركه.
وتطرق سبأ في دراسته إلى التواصل الثقافي بين اليمن وبلدان المغرب العربي، حيث أكد أن التأثيرات المتبادلة بين اليمن وأفريقيا وصلت إلى دول المغرب العربي في أقصى الشمال للقارة، حيث حدثت العديد من الهجرات اليمنية القديمة والتي تعود إلى آلاف السنين، والتي انتقل فيها اليمنيون القدامى إلى بلدان المغرب العربي، وكان لأهل اليمن علاقات سياسية وتجارية مع بلاد الهند وشواطي أفريقيا الشرقية، وكانت السفن اليمنية تحمل البضائع الهندية إلى أرض سبأ وحضرموت ومنها تنقل إلى الحبشة ومصر وسوريا وحتى أفريقيا الشمالية.
وفي أواخر الألف الثالثة قبل الميلاد غزا المغرب أبرهة إبن الرائش أحد ملوك العرب البائدة الملقب بذي المنار والذي ترجح جماعة المؤرخين أنه ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم، وقبل رجوعه منه خلف به أقواماً كثيرين يقال إنهم جدود قبيلة صنهاجة وقبيلة كتامة ومن ذلك الحين بدأت الإتصالات تجري بين دولة اليمن والبلاد المغربية بواسطة مصر.
وأكد سبأ أن الهجرات التي تلت الفتح الإسلامي لبلدان المغرب العربي ذات تأثير كبير على العناصر الثقافية والفنون واللهجات لهذه الشعوب، فقد استوطن اليمنيون في عدد من بلدان المغرب العربي وتذكر المصادر التاريخية أن الرحالة والمهاجرين اليمنيين قد انتقلوا إلى بلدان المغرب العربي وكان غالبية هؤلاء المهاجرين من اليمن، ومن أشهر الشخصيات المغربية التي تعود أصولها إلى اليمن العلامة عبدالرحمن بن خلدون "وهو ولي الدين عبدالرحمن بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن ابراهيم بن عبدالرحمن بن خلدون الحضرمي، حيث كان أصله يرجع إلى العرب اليمنية في حضرموت.
PreviousNext
وقد نقل العرب إلى دول المغرب العربي بعضا من عاداتهم وتقاليدهم، وامتزجت الكثير من عناصر الثقافة الشعبية العربية واليمنية بالثقافة المغربية الأصيلة، وعلى سبيل المثال سيجد الكثير من التشابه في الطريقة والأداء بينها وبين الموشحات المغربية والأندلسية، كما تورد بعض المراجع الـتاريخية أن الحضارم اليمنيين كانوا من أكثر المهاجرين إلى بلدان المغرب العربي، وما يؤكد هذه المعلومة هو هجرات أجداد المؤلف التونسي عبدالرحمن بن خلدون الحضرمي كما تذكر الكثير من المصادر أن القبائل اليمنية شاركت بعدد كبير من الجند في فتوحات بلدان المغرب، ويعود ذلك إلى الإسلام المبكر لأهل اليمن، وكذلك العدد الكبير لليمنيين آنذاك.
ويشير يوسف الشريف في كتابه "اليمن وأهل اليمن أربعون زيارة وألف حكاية": "فلما بزغ نور الإسلام انخرط اليمنيون في جيوش الفتح الإسلامي الذي توالى زحفها حتى تخوم الصين ومشارف غرب أوروبا عبر دخولها مصر، وهكذا عندما فتح طارق بن زياد الأندلس متقدماً جيش المسلمين لم يجد سوى "شال" يتلفع به مجاهد يمني ورفعه عالياً بديلاً عن العلم إعلانا بالنصر وتأكيدأً على الدور الجهادي الجسور الذي نهض به اليمنيون في سجل الحضارة الإسلامية".
وأوضح لا غرابة أن تجد الكثير من التشابة في اللهجات اليمنية مع لهجات بلدان المغرب العربي، فقد ذكرت الكثير من المصادر أن المشاركين في الفتح من الجيوش العربية انتقلت غالبيتها للعيش في بلدان المغرب العربي، وأصبحوا جزءاً من مجتمعاتها وعاشوا متحابين مع مكونات المجتمعات المغربية من الأمازيغ وغيرهم، بل وتعاونوا على إكمال بقية الفتوحات الإسلامية في بلاد الأندلس وأوروبا ولولا فضل هؤلاء المغاربة ما فتحت هذه البلدان، وعندما استقرت هذه القبائل استدعت إليها عشائرها من اليمن والجزيرة العربية، واستقر بهم الحال في بلدان المغرب العربي، واندمجوا مع هذه المجتمعات وأصبحوا جزءاً من النسيج الأجتماعي المغربية.
ولم تتوقف رحلات اليمنيين والعرب إلى بلاد المغرب والأندلس بل استمرت لمئات السنوات، فقد كانت الهجرات المتتالية مستمرة على مدى القرون المتلاحقة، وأشهر هذه الهجرات هي هجرة الهلاليين الذين سكنوا بلدان المغرب العربي وتركوا وراءهم نموذجا من أشهر السير الشعبية العربية، وهي السيرة الهلالية. وتعتبر قبيلة بني هلال من القبائل المنتشرة بكثرة في اليمن في الوقت الحاضر وينتسب إليها شخصيات سياسية بارزة أشهرها الشهيد عبدالقادر علي هلال الذي تولى منصب المحافظ لعدد من المحافظات الكبرى في اليمن وهي صنعاء وحضرموت وإب.
ولعل أبرز ما حير الباحثين في التراث الشعبي اليمني هو التشابه الكبير في الازياء والحلي اليمنية والمغربية، والذي لا يستبعد الكثير منهم وجود صلات وتأثيرات متبادلة بين اليمن وبلدان المغرب العربي، والتي ربما تعود إلى التبادل التجاري أو الهجرات أو ربما نتيجة إلى تشابه البيئات وتوفر الخامات المتشابهة في هذه البلدان، وربما كان للديانة اليهودية وحفاظها على موروثها القديم دوراً مهماً في تشابه أنماط الحلي للحضارات القديمة في اليمن ودول المغرب العربي