مصانع طحن الاسمنت..مشاريع العصر
د/ حسين الملعسي
■ صناعة الإسمنت هي عملية تحويل المواد الخام مثل الحجر الجيري والطين إلى مادة بناء قوية تستخدم في تشي...
لفترة طويلة كان علماء الاقتصاد يضعون اختصاصهم في خانة علوم الرياضيات أو الهندسة أو الفيزياء. وإلى اليوم، فإن الكتب المنهجية التي يقرأها طلاب الدراسات العليا في مقررات "فلسفة العلم" تصنف علم الاقتصاد ضمن العلوم الصرفة وليس الاجتماعية أو الإنسانية.
والعلوم الطبيعية أو الصرفة تختلف كثيرا عن العلوم الاجتماعية. وأهم ركن للاختلاف هو أن العلوم الاجتماعية فيها تحيز وذاتية وتدخل فيها العواطف والميول، بينما العلوم الطبيعية والصرفة لا مجال فيها للعواطف، بل يحكمها العقل والمنطق والمعادلات والنماذج والخطط التي فيها نسبة الخطأ تكاد أن تكون معدومة.
والعلوم الصرفة تحكمها القواعد والقوانين مخالفتها تكون في الغالب وخيمة العواقب شأن القوانين والتشريعات التي تحكمنا ضمن مجتمعاتنا، حيث إن انتهاكها قد يؤدي بنا إلى السجن أو دفع غرامات.
بطبيعة الحال لم يكن كل علماء الاقتصاد متفقين على أن حقلهم يقع ضمن العلوم الصرفة. وكان بعض منهم يثير شكوكا كثيرة حول المعادلات والنماذج الاقتصادية حتى المالية التي تحكم المجتمعات المتحضرة، ولا سيما عندما تعصف بهم أزمات اقتصادية خانقة تبرهن عدم نجاعة الفرضيات والنظريات الاقتصادية المبنية على المنطق والعقلانية.
واستمر الوضع هكذا حتى ظهور ما نطلق عليه اليوم "علم الاقتصاد السلوكي" الذي من خلال نظرياته وفرضياته والنماذج التي قدمها برهن أن سلوكنا كبشر من حيث نشاطاتنا الاقتصادية والمالية ليس منطقيا وعقليا وعلميا أبدا، بل تتحكم فيه العاطفة والذاتية والميول والمعتقدات.
وبرهن هذا العلم الجديد أن المال الذي نحصل عليه وكثيرا من نشاطاتنا اقتصادية كانت، أو غيرها لا تكون استجابة للعقل والمنطق والمعادلات الرياضية التي قلما يخلو منها كتاب أو بحث في العلوم الاقتصادية الكلاسيكية، بل ردة فعل لعواطفنا وذاتيتنا وتشبثنا برأينا المتحيز أساسا. ولأننا لسنا عقلانيين ومنطقيين دائما حتى ضمن إطار سلوكنا اليومي فنحن في حاجة إلى الترغيب أو التنبيه أو التحفيز بين الفينة والأخرى وأحيانا بطريقة آلية تلقائية لاتخاذ قرارات صائبة لتحسين أدائنا ووضعنا الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك لإدخال تحسينات في الخدمات التي تقدمها الدول والشركات.
وصاحب الفضل في بزوغ علم الاقتصاد الذي يأخذ سلوك البشر والمجتمع والمؤسسات في عين الاعتبار عند اتخاذ القرارات يعود لعالم الاقتصاد الذائع الصيت البروفيسور ريتشارد ثالر الذي حاز جائزة نوبل لعام 2017 أخيرا، لأنه أظهر تأثير علم النفس وسلوكية البشر في النشاط الاقتصادي.
وأحدث ثالر ثورة في علم الاقتصاد بعد نشره كتابه المعروف عالميا بـ Nudge المفردة التي تشكل العمود الفقري لنهجه ونظريته التي ترجمتها إلى العربية غير مستقرة وتتأرجح بين "الترغيب" أو "التنبيه" أو "التحفيز". عنوان الكتاب الكامل بالإنجليزية، الذي يتربع على قمة الكتب الأكثر مبيعا ويشترك في تأليفه مع عالم اقتصادي آخر، هو: Nudge:Improving Decisions About health, Wealth, and Happiness. والترجمة العربية للعنوان هي: "تنبيه: تحسين القرارات حول الصحة، والثروة، والسعادة" وهي في رأيي ترجمة ركيكة لا تفي بالغرض وبعيدة عن معنى النص بالإنجليزية.
الكتاب الذي صدر في عام 2008، حسب علمي لم تتم ترجمته إلى العربية حتى الآن، كان حافزا لاتباع سياسات حكومية عامة جديدة لترغيب أو تحفيز الناس من خلال عمليات بسيطة وسهلة وصغيرة، ولكنها ذات فعالية كبيرة وكلفة قليلة في بعض الدول الغربية منها الدول الاسكندنافية وبريطانيا والولايات المتحدة، حيث تم تشكيل فرق على مستوى الحكومات لدراسة السلوكية وطرق تحفيز الناس لتحسين سلوكهم وتصرفهم من حيث الثروة والسعادة والصحة وغيرها من الأمور الحياتية الأخرى.
تبسيط الإجراءات واستخدام المقارنات والمقاربات لحث الناس والتأثير في سلوكهم لاتخاذ مواقف وقرارات صائبة هي في صلب نظرية التحفيز Nudge التي أتى بها ثالر. وتحضرني مشاهد حية لتطبيق نظرية ثالر في التحفيز أو Nudge. في السويد هناك عقوبات صارمة يتعرض لها كل من يتخلف عن دفع رسم تملك جهاز التلفزيون. كي تحفز الحكومة الناس على دفع هذا الرسم قامت ببث إعلان يتناول كل أسبوع محافظة أو مدينة محددة يظهر فيها أهلها كم هم سعداء، لأنهم يدفعون الرسم في حينه وأن جيرانهم والناس الذين يعرفونهم كلهم يدفعون الضريبة هذه.
ومشهد آخر له علاقة بدفع ضريبة الدخل في بريطانيا والاستمارات التي على دافع الضريبة أن يملأها. هذه كانت من الصعوبة بمكان من حيث اللغة والطلبات المرفقة إلى درجة كان بعض الناس يرميها في سلة المهملات عند تسلمها، لأنه لم يكن بإمكانهم فك طلاسمها. عندما جرى تبسيط الاستمارة طرأ انخفاض ملحوظ في عدد المتهربين من دفع الضريبة.
والتذكير بلطف وبلغة بسيطة مفهومة من عامة الناس جزء من نظرية التحفيز والاقتصاد السلوكي. الهاتف النقال والبريد الإلكتروني اليوم يستخدم لتذكير الناس بمواعيدهم ودفع فواتيرهم والتواصل مع الأجهزة الحكومية.
ولقد تم تطبيق نظرية التحفيز على نطاق واسع في مجالات شتى وأعطت ثمارا طيبة. الناس تحب البساطة وتحب الخطوات اليسيرة والسهلة التي توصلهم إلى غاياتهم وتغير من سلوكياتهم.
هناك فرق شاسع عندما نقول للناس، إنه عليهم أن يدخروا للمستقبل، وإن الحكومة أو الشركة ستقف بجانبهم وتحثهم على ذلك وبين تقديم مشروع ادخار حكومي مبسط بإمكان أي فرد فهمه واستيعابه وفيه خطوات واضحة تظهر كم سيربح أو يدخر الشخص في كل سنة، وكم سيكون التراكم، وكم سيصبح المبلغ عند سن التقاعد لو استقطع مثلا 200 ريال كل شهر من راتبه لهذا الغرض.
الاقتصاد السلوكي صار جزءا من العمل والمعرفة في الجامعات الغربية وهناك عشرات أو ربما مئات الطلبة يدرسونه ضمن مراحل علمية متقدمة لنيل شهادات عالية.
أظن آن الأوان لبلد الحرمين فتح فرع للاقتصاد السلوكي في إحدى الجامعات وكذلك إنشاء وحدة لتقييم السلوك وتحسين الأداء وترجمة كتب ثالر وغيره من علماء الاقتصاد السلوكي إلى العربية، ولا سيما أن المملكة في طريقها إلى تبني خطة تنموية طموحة تقلل الإدمان على النفط وتنوع الاستثمار والإيرادات.