مصانع طحن الاسمنت..مشاريع العصر
د/ حسين الملعسي
■ صناعة الإسمنت هي عملية تحويل المواد الخام مثل الحجر الجيري والطين إلى مادة بناء قوية تستخدم في تشي...
وعدت قرائي الكرام بأنني سأشرح لهم "النموذج الاسكندنافي" الذي جرى التطرق إليه كثيرا أخيرا كحل ناجع للتخفيف من وطأة الثورة الصناعية الحديثة التي ستزيح فيه الماكينة والآلة الإنسان وتحل محله في ساحة العمل.
ما يميز الثورات الصناعية التي شهدها العالم هو أنها أحدثت خلخلة قلبت كثيرا من التوازنات الاجتماعية والاقتصادية التي تسبقها على عقب.
في كل ثورة صناعية هناك ربح وخسارة، رغم أن الربح في الغالب هو السائد وعلى الخصوص للأمم والشعوب الرائدة في مسار العلم والمعرفة.
تملك ناصية العلم والمعرفة شرط أساس للتطور والرخاء والتمكن من إحداث ثورات تنقل البشرية من حالة إلى أخرى.
بيد أن الثورات الصناعية والظواهر الاقتصادية التي تتبعها، ولا سيما في العقود الأخيرة، كان لها وقع كبير على التشغيل في الدول الصناعية والغربية منها على وجه الخصوص.
مثلا، العولمة التي رافقت الثورة الصناعية الحديثة أحدثت خللا كبيرا في التشغيل في الدول الغربية في سعيها نحو الأسواق الجديدة والعمالة الرخيصة.
وفي كل حملة انتخابية في الغرب صارت مسألة التشغيل من أهم نقاط التنافس بين المرشحين.
وفي بعض الدول الرأسمالية منها الولايات المتحدة نشاهد انقلابا على مفهوم العولمة، حيث تعمل الإدارة الحالية على جذب أصول وموجودات الشركات الأمريكية إلى الوطن وتعمل جاهدة للحد من قيام الشركات بإسناد أعمالها أو نقل مقارها ومعاملها إلى بلدان أخرى.
ولكن الحملة الحالية التي غايتها إقناع الشركات المحلية بالبقاء والكف عن نقل معاملها خارج البلاد للتقليل من نسب البطالة ربما أتت متأخرة بعض الشيء.
وكما قلنا في رسالة الأسبوع الفائت صرنا اليوم قاب قوسين أو أدنى من ثورة صناعية جديدة تستند إلى الذكاء الاصطناعي الذي ستقوم الماكينة فيه بأداء كثير من المهام العضلية والعقلية للإنسان.
وحسب توقعات علماء الاقتصاد قد تسبب هذه الثورة معدلات بطالة لم تعرفها المجتمعات الصناعية سابقا. والتوقع هو حدوث اختلال يفوق ما ألفته هذه المجتمعات عند تعرضها للهزات التي أحدثتها الثورات الصناعية السابقة.
لن يخسر ملايين العمال في المصانع وظائفهم فقط بل إن الماكينة الذكية يتوقع لها أن تحل محل الصحافيين والمحامين والمترجمين والعاملين في المختبرات الطبية وغيرهم كثير.
والماكينة الذكية بإمكانها اليوم قيادة السيارة والشاحنة وحدها دون السائق ويتوقع أن تحل السيارات الذكية محل ما نملكه من وسائط نقل لا تتحرك دون تدخل أقدامنا أو أرجلنا ولا تعرف مسارها دون تحكم عقلنا.
ومن هنا تأتي أهمية النموذج الاسكندنافي الذي هدفه الأساس حماية الإنسان من الاختلال وعدم التوازن الذي تسببه الرأسمالية وانتقالها من ثورة صناعية إلى أخرى.
وزادت أهمية هذا النموذج بعد أن صار بإمكان التطور العلمي والتكنولوجي والتقني في العالم الرأسمالي الانتقال من ثورة صناعية إلى أخرى في غضون عقود قليلة بدلا من قرون كما كان الحال في الماضي.
النموذج الاسكندنافي جوهره منح الإنسان قيمته وكرامته إن كان عاطلا عن العمل أو له وظيفة تدر عليه دخلا جيدا.
يتمتع العاطل عن العمل في الدول الاسكندنافية بكل وسائل الرخاء التي توفرها الدولة ويتقاضى مرتبا يتمكن من خلاله التمتع بمستلزمات الرخاء الأخرى المتوافرة لدى الآخرين.
وما يثير الدهشة والتقدير والتثمين هو أن العاملين وأصحاب الدخول المرتفعة يسهمون برحابة صدر ودون مَنِّ من خلال الضريبة أو الإسهام في الصناديق التي تؤسسها الدولة لرعاية غير العاملين أو العاطلين لأي سبب كان.
الدول الاسكندنافية رأسمالية التوجه ولكنها اشتراكية التعامل مع الناس حيث تعمل جهدها كي يشعر الجميع أنهم متساوون رغم التباين في الدخل الذي يتقاضونه.
كان في السابق هناك تململ من البطالة خشية أن البعض قد يستغل امتيازاتها للجلوس في البيت وعدم الدخول في سوق العمل، إلا أنه ظهر أن هؤلاء يمثلون نسبة صغيرة ومن ثم جرى تطبيق إجراءات محددة تسد الطريق على مثل هؤلاء.
وبدخول الأتمتة ساحة العمل، شرع الاسكندنافيون في مواجهة آثارها السلبية. الأتمتة على قدم وساق في هذه المجتمعات وهم يرحبون بها لأنها صارت اليوم الطريق الأمثل للحفاظ على النمو الاقتصادي وتطوير المجتمع.
ولكنهم يفكرون جديا في مشاريع يطلقون عليها "الراتب العام" universal salary الذي بموجبه كل فرد في المجتمع عاملا كان أو عاطلا عن العمل يستحق راتبا مجزيا يمنح له وكأن له وظيفته الخاصة به.
ويفكرون في إنشاء صندوق الثروة العامة الذي ستسهم فيه الشركات والدولة وأي مضمار آخر تدخله الأتمتة وتسرق ماكيناتها الذكية الوظائف من العاملين وتحيلهم إلى عاطلين.
هذه الدول قد أسست منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن ما يمكن أن نطلق عليه التقاعد العام universal pension الذي بموجبه كل فرد في المجتمع يستحق راتبا تقاعديا مجزيا حال بلوغه الـ 65 من العمر بغض النظر إن كان عاملا أو عاطلا عن العمل.
ولهذا فإن العالم الرأسمالي وهو يمر بثورة صناعية مختلفة تماما عن سابقاتها، يدرس التجربة الاسكندنافية بتمعن ومن الدول ما ترسل الوفود للاطلاع المباشر كي يستفيد من التجربة الفتية "الراتب العام" والتجربة الرائدة "التقاعد العام".