بين ثرثرة «تويتر» وشعبوية «فيسبوك»

في سابق الزمان، لم يكن بمقدور إلا القلة القليلة من الناس توصيل صوتها والتعبير عن مكنوناتها. في حينه كان الكل لديه "رسالة"، كما هو الواقع اليوم، لكن الحصول على وسيلة شعبية ومجانية لنشر "الرسالة" كان شبه مستحيل. في الماضي، لم يصل إلى وسائل الإعلام إلا صوت المحظوظين من النخبة في المجتمع. التعبير عن المكنونات من خلال بث رسائل إلى المتلقين في وسائل الإعلام كان حكرا على بعض الناس من المتنفذين والنخبويين وأصحاب المصالح. ولهذا، كان من الصعوبة بمكان الولوج إلى المكنونات التي تعشعش في داخل الناس، عامة الناس. كان الإنسان قبل الثورة الخوارزمية "الرقمية"، يثرثر مع نفسه، ويدندن معها، ويشتكي إلى الله في داخله. وإن أراد شخص استخدام مفردات أو عبارات جارحة، مسيئة أو حتى بذيئة، كان تأثيرها محدودا لا يتعدى نطاق أشخاص محدودين. الوسائل التي كانت تحمل الرسالة، مفردة أو عبارة أو جملة، لم تكن شائعة للكل. بقدوم الثورة الخوارزمية وشيوع وسائل التواصل دخلنا عهدا جديدا. وما يميز هذا العهد ليس فقط ابتكاراته التكنولوجية التي لم تعد غائبة عنا؛ لأننا نتلقفها حال طرحها، إنما الذي يميز عصرنا الخوارزمي هذا هو تأثيره البالغ في الخطاب الذي نستخدمه. لقد حدثت تغييرات كبيرة، وفي الغالب سلبية المنحى في اللغة التي نستخدمها للتواصل. أظن أن كثيرا من القراء يتفقون معي على أننا صرنا وجها لوجه أمام خطاب يتميز بفائض من العدوانية والتجريح والتسقيط على صفحات التواصل الاجتماعي، خصوصا في "تويتر". يسمح لنا "تويتر" بكتابة تغريدات قصيرة لا يتجاوز عدد حروفها 280 حرفا. بيد أن أغلب التغريدات لا تستخدم المساحة المتاحة هذه؛ أي 280 حرفا. كل ما يحتاج إليه المغرد في أغلب الأحيان لا يتعدى مفردات قليلة وبلغة ركيكة ليست بجمل وربما ليست عبارات محكمة. بيد أن الهدف واضح المعالم، ويسير عادة في وجهتين مختلفتين. في الأولى، غاية المغرد إهانة وإذلال ومعاداة من لا يتفق معه، وفي الأخرى المغالاة في الثناء والمحاباة للذي يتفق معه. وما إن يصبح حدث أو مقال أو شخص مثار تغريدة لها مساس بحياة وميول الناس، حتى يهب المغردون أفواجا في فرز واضح بين الوجهة الأولى أو الأخرى. ولأن "تويتر" لا يغربل التغريدات ولا يحررها، صار ساحة مكشوفة ومباحة يلعب فيها من هبّ ودبّ، وكلٌّ يدلي بدلوه غير مكترث لبذاءة المفردة أو العبارة وعدوانيتها. "تويتر" له معايير سياسية محددة، تجاوزها يؤدي إلى غلق الحساب وحسب. وقد بحث علماء وأساتذة الخطاب هذه الظاهرة وكتبوا عنها كثيرا. في الإنجليزية نطلق عليها مصطلح trolling، وهناك مصطلح مقابل في العربية، وهو "الذباب الإلكتروني" أو "الجيش الإلكتروني". و"فيسبوك"، شأنه شأن "تويتر"، ما هو إلا ساحة مفتوحة ومكشوفة. الفرق بين الاثنين يكمن في أن الأول لا حدود لساحته بقدر تعلق الأمر بعدد الأحرف أو الكلمات، وتقريبا كل أنواع المحتوى. وهذه الميزة حولت "فيسبوك" إلى موقع اجتماعي متعدد المنصات والخواص. وصار "فيسبوك" موقعا شعبيا يمكن من خلاله بث الغث والسمين من الأخبار والمعلومات. ولعب ويلعب "فيسبوك" دورا كبيرا في ظاهرة الأخبار المضللة أو الزائفة، التي لم تفلح الابتكارات الخوارزمية في وضع حدّ لها، أو مساعدة المتلقي على فرزها عن الأخبار والمعلومات الموثقة. يعدنا علماء الخوارزميات من العاملين في "فيسبوك"، بأنهم في طريقهم إلى هزيمة صانعي الأخبار المضللة، لكن لم يفلحوا حتى الآن، وقد لا يصلون إلى هدفهم. مهما كان من أمر، فإننا صرنا أمام خطاب صادم وعدواني ومؤذٍ، سواء على صفحات "تويتر" أو "فيسبوك". ما نراه ونلاحظه في أغلب الأحيان هو صراع صارت له أطره اللغوية والخطابية، التي تعكس إصرارا كبيرا على إهانة واحتقار وإذلال الآخر، في مسعى تنافسي إلى انتقاء مفردات أو عبارات كان الناس في السابق قد لا يقبلون النطق بها. وما يثير القلق هو أن الظاهرة "التويترية" أو "الفيسبوكية" - مثلا - لم تعد محصورة ضمن إطار هذين الموقعين المؤثرين. لقد وجدت الظاهرة طريقها إلى وسائل الاتصال الرئيسة، ولا سيما من خلال فتح باب التعليقات في الصحف والمجلات. والتعليقات في الصحف لها كثير من الشبه مع التغريد، مع فارق أن "تويتر" - مثلا - يفتح الباب على مصراعيه للمغردين ضمن الوجهتين اللتين تحدثنا عنهما. في الإعلام الرئيس تغربل أو تحرر التعليقات "التغريدات" في أغلب الأحيان، ولا يظهر منها إلا ما يوائم الميل الذي تتبناه الوسيلة. ومن خلال نظرة سريعة على التعليقات في الصحف المحافظة مقارنة بالصحف الليبرالية "اليسارية" في الولايات المتحدة، سنرى كيف أن الخطاب يسير في وجهتين مختلفتين.

 

مقالات الكاتب