لماذا توقفت حملات تشويه تجار الخردة؟!
ماجد الداعري
■ بعد صدور حكم قضائي نافذ لصالح تجار الخردة، قضى بحفظ حقوقهم وحصولهم على 75% من قيمة الطن الخردة عال...
■ يكاد ينقضي عقد من الزمن منذ بدء الصراع والحرب المدمرة في اليمن، ويمكن القول أن الحرب خلال تلك الفترة كان لها وجهين في كل من مناطق صنعاء وعدن، فمن ناحية أدت إلى سقوط مئات الألاف من الضحايا بين قتيل وجريح من طرفي الصراع وإلى تدمير مرافق البنية التحتية والمباني العامة والخاصة، وإلى انكماش الاقتصاد الوطني، وتدهور قيمة الريال وتزايد التضخم والبطالة والفقر، ومن ناحية أخرى كان للحرب مظاهر الثراء الفاحش لمن يديرها، سواء كانت في العقارات أو في وسائل النقل أو حتى في المقتنيات الشخصية، وبروز فئات طفيلية متربحة شكلت ما يسمى "اقتصاد الظل" أو "الاقتصاد غير الرسمي"، وازدهر نشاطها الاقتصادي والتجاري على حساب إنهيار الإطار المؤسسي والقانوني لوظائف الدولة ومؤسساتها. وفي الوقت الذي كانت تسيل فيه قطرات الدماء من الضحايا الأبرياء في معظم مناطق اليمن، كانت الأرصدة المالية للفئات المتربحة تتصاعد في الحسابات البنكية في الداخل والخارج أو في شركات الصرافة أو حتى في البدرومات،
وكل هذا يشير إلى أن مظاهر اقتصاد الحرب في ظل الصراع بين سلطتي صنعاء وعدن تتجلى في التحايل على الاقتصاد الرسمي وتدميره، ونمو الاقتصاد غير الرسمي أو الاقتصاد الخفي " السوق السوداء"، وإنشاء كيانات موازية مهمتها الجباية وإدارة المال العام خارج إطار الدستور والقانون، وطغيان السلب والنهب والابتزاز والعنف ضد المواطنيين بهدف السيطرة على الأصول المربحة، كما أن اقتصاد الحرب يتسم باللامركزية من حيث تعزيز نفوذ المحافظات على الموارد السيادية على حساب دور الدولة المركزية، وتنمو فيه ظاهرتي التهرب الضريبي والتهريب الجمركي، وقطع الطرق وحصار المدن، واستغلال العاملين في مؤسسات الدولة وتشغيلهم وفق نظام السخرة، وحشد فئة الشباب ليكونوا وقودا لتأجيج الصراع المستمر،
"أنواع اقتصادات الحرب"
كما هو معروف، أن الحياة الاقتصادية في اليمن لم تتوقف خلال سنوات الحرب، بل أنها تأقلمت وأخذت أشكالا وأنماطا جديدة، فالأنشطة الاقتصادية في زمن الحرب تخدم وظائف مختلفة لأطراف متنوعة، وهو ما يطلق عليه اقتصادات الحرب، ويمكن تصنيفها إلى عدة أنواع من الاقتصادات حسب الأطراف ذات المصلحة "المستفيدين" والمشاركين في اقتصاد الحرب، ودوافعهم للمشاركة، وأنشطتهم خلال فترة الحرب:
أ. اقتصاد الجبهات:
يقوم على أساس التعاملات الاقتصادية التي تحافظ على استدامة الجبهات، ويهيمن عليه أطراف فاعلة مختلفة تشمل القادة العسكريين والمقاتلين والجماعات المسلحة وقوات الأمن والميليشيات المتمردة، إضافة إلى "مقاولين الحرب" لمد الجبهات وتموينها بالسلاح والعتاد والرعاة الخارجيين "السعودية، الإمارات، إيران" الممويلين للحرب بالمال والسلاح، ويتسم هذا الاقتصاد بالوفرة المالية المتدفقة من الجبايات الضريبية والجمركية على الأنشطة الاقتصادية والتجارية القانونية وغير القانونية، ومن مصادر الدعم الخارجي سواء كانت في شكل أموال نقدية أو أسلحة أو ألات ومعدات أو مرتزقة ممولين من الدول الداعمة، إضافة إلى العوائد المتحصلة من قطع الطرقات وحصار المدن ونهب الأصول المالية والعقارية والتلاعب والتحايل بالمساعدات الإنسانية، وعادة ما تكون طرق وآليات الإنفاق من هذه المصادر بعيدة عن المساءلة والشفافية، مما يعزز فرص العبث والفساد والثراء غير المشروع،
ومن مخاطر هذا الاقتصاد أن الأطراف الفاعلة فيه تستحوذ على معظم الموارد المالية المتاحة من المصادر المحلية أو الخارجية، وأصبح لها قوة ونفوذ ومكانة وثروة ومن مصلحتها أن يستمر التوتر والصراع، ولذلك فإن تحقيق السلام قد لا يصب في مصالحهم، وسيكون على حساب المكاسب التي يتمتعون بها، بينما قد يكون السلام في اهتمامات ومصلحة الجنود المقاتلين، خاصة عندما تتوفر مصادر مالية بديلة لتحقيق سبل العيش الكريم لهم ولأسرهم، كما أن الداعمين الخارجيين قد يدفعون في إتجاه إيقاف الحرب بشرط تحقق مصالحهم وضمان نفوذهم في الترتيبات لمرحلة الهدنة والسلام،
ب. اقتصاد التربح:
ويمكن تسميته "اقتصاد الظل"، ويشمل طيفا واسعا من العلاقات الاقتصادية التي تحدث خارج الإطار القانوني للدولة، والأطراف الفاعلة في هذا الاقتصاد تتمثل في سلسلة من المتربحين الحذرين في زمن الحرب والصراع، بما فيهم التجار ورجال الأعمال والمشايخ والصرافين والمهربين وحتى الملاك والمزارعين، وهدفهم جني العوائد والأرباح من الفرص الاقتصادية المستجدة في ظل الفوضى وانهيار النظام بسبب ظروف الحرب، ويتسع هامش الأرباح لهذه الفئات في حالة فرض الحصار والمقاطعة الاقتصادية. فمثلا، تزداد عوائد المهربين للسلع المطلوبة والنادرة ويحقق الصرافون أرباحا عالية من وراء تقلبات سعر الصرف وإنهيار قيمة العملة الوطنية. ورغم أن هذه الفئات كانت تمارس أنشطتها قبل إندلاع الحرب، إلا أنها تشتد ضراوة وقوة في حالة الصراع وإنهيار نظام الدولة وتصبح القاعدة التي يعتمد عليها اقتصاد الجبهات،
ومن مخاطر اقتصاد التربح أن الأطراف المكونة له تحقق أرباحها على حساب آلام الناس ومعاناتهم، فالمضاربة بسعر العملة، على سبيل المثال تؤدي إلى إرتفاع هائل في أسعار السلع الاستهلاكية وهذا يقود إلى تدهور المستوى المعيشي للناس وتتسع ظاهرة العوز والفقر، وهذه الظاهرة مارسها الصرافون في كل من مناطق صنعاء وعدن خلال السنوات الأربع الأولى من الحرب، وخفت حدتها في مناطق صنعاء خلال السنوات الأخيرة، بينما ظلت نشطة في مناطق عدن، كما أن الفئات الفاعلة في اقتصاد التربح تتسم بالتأرجح وتغيير جلدها حسب ظروف الحرب أو السلام، ولذلك فإنها ترغب في السلام ولكن بشرط أن تتوفر البيئة الملائمة والدائمة لممارسة الأنشطة الاقتصادية، وإذا لم يتوفر ذلك، فإنها ستظل تمارس أنشطتها في مرحلة السلام كما كانت في مرحلة الحرب،
ج. اقتصاد السطو والاستحواذ:
في ظل ظروف الحرب يميل أصحاب النفوذ سواء في السلطات المحلية أو الجماعات المسلحة إلى السطو على الموارد السيادية للدولة أو على الممتلكات والأصول المالية للأفراد والشركات، فخلال فترة الحرب استحوذت المحافظات النفطية "مأرب، حضرموت، شبوة" على معظم العوائد من المنتجات النفطية في إطار كل منها، ولم تلتزم بتوزيع تلك العوائد على المحافظات الأخرى ذات الكثافة السكانية والأكثر احتياجا للموارد المالية للإنفاق على أجهزة الدولة وعلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، كما أن السلطة المحلية في عدن تتحكم في الموارد السيادية من الضرائب والجمارك بعيدا عن السلطة المركزية هناك، إضافة إلى أن الجماعات المسلحة في مناطق عدن تستولي على الممتلكات العقارية العامة أو الخاصة والتربح من إعادة بيعها خارج إطار القوانين واللوائح النافذة،
وفي مناطق صنعاء يتم الاستحواذ على الممتلكات لبعض الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين من قبل سلطة صنعاء، ولكنها أوجدت لها إطارا تنظيميا ووضعتها تحت إدارة ما يسمى "الحارس القضائي"، ووفقا للقانون اليمني، فإن تلك الممتلكات توضع تحت يد أمينة يتولى حفظها وإدارتها ليردها مع غلتها المقبوضة لمن يثبت له الحق فيها مع عدم المساس باصل الحق.
ولاقتصاد السطو مخاطر جمة على عملية الإنتقال إلى مرحلة السلام، فقيادات المحافظات التي استولت على الموارد السيادية قد ترى في الإنقسام واستمرار الصراع فرصة لها لتنعم بخيرات البلاد دون توزيعها على المحافظات الأخرى، أو أنها ستحاول الاستئثار بأكبر قد ممكن من حصتها في الموارد إذا اتجهت أطراف الصراع إلى المصالحة والسلام، وهذا قد يؤسس لاستدامة الصراع على الموارد المحدودة في المستقبل المنظور.
د. اقتصاد الحرابة:
من المؤكد، أن الحرب شوهت القيم والمبادىء والأخلاق الإنسانية لدى طرفي الصراع في كل من سلطتي صنعاء وعدن، ونشاء ما يمكن تسميته "باقتصاد الحرابة"، والمتمثل في قطع الطرقات الرئيسية والفرعية بين المحافظات أو في إطار المحافظة أو المدينة الواحدة، والمكونات الفاعلة فيه هم قيادات السلطة العليا في كل من صنعاء وعدن وقيادات السلطة المحلية في المحافظات التي تم تقطيع أوصالها بإقامة الحواجز والموانع في الطرقات الرئيسية والفرعية فيها، ويضاف إليهم القيادات العسكرية والأمنية في السلطات المركزية وفي المحافظات، وهولاء القوم هم المسؤولون عن قطع الطرقات على طول خارطة الوطن إبتداء من حرض وميدي مرورا بالجراحي وحيس وحتى تعز وما أدراك ما تعز وصولا إلى إب والضالع والبيضاء ومأرب والجوف،
وواضح أن أهداف هذه الأطراف هو إلحاق الضرر المادي والمعنوي بالمواطنيين الأبرياء وإرغامهم على تحمل أعباء ومشقة الطرق البديلة والخطيرة في الجبال الوعرة أو في عمق الصحراء القاحلة لمدة ساعات وساعات من الزمن بدلا من قضاء دقائق في الوصول إلى منازلهم أو إلى أماكن عملهم، إضافة إلى الكلفة المالية العالية التي يتكبدها المواطن نظير تنقلاته أو نقل السلع والبضائع بين المحافظات والمدن المتروسة بالحواجز والموانع ونقاط التفتيش، وهناك قصص مؤلمة عن معاناة نقل المرضى أو المسافرين الذين يلقون حتفهم بين الجبال أو في عمق الصحراء ومنهم من يتعرض للسلب والنهب والقتل كما يحدث في صحراء الجوف،
ومن المؤكد أن الدوافع لتقطيع الطرقات ليس لها علاقة بالجوانب الأمنية والعسكرية بقدر إرتباطها بالعوائد المالية التي تجنيها نقاط التفتيش على تجارة السلع القانونية وغير القانونية والمهربة، وعلاقتها بشبكة المصالح التي تأسست من جراء قطع الطرق وإقامة نقاط التفتيش في معظم المحافظات،
كما أن مصالح الفئات المعنية بقطع الطرق من كلا طرفي الحرب والصراع، تجعلها تقاوم رفع الحواجز وفتح الطرقات، وتصر على بقائها رغم التوافق على الهدنة منذ أكثر من عامين، ولذلك، فإن مخاطر قطع الطرقات تمثل ألغاما متفجرة في سبيل المصالحة والسلام، وأن الفئات المستفيدة من هكذا وضع قد تقف ضد أي خطوات للإنتقال على مرحلة السلام والاستقرار،
ه. اقتصاد الكفاف:
وهذا الاقتصاد يشير إلى التعاملات الاقتصادية لمعظم السكان والأسر الفقيرة والفئات الضعيفة وفي مقدمتهم موظفي الدولة المحرومين من مرتباتهم لأكثر من ثماني سنوات، إضافة إلى صغار المزارعين والصيادين والعمال وأصحاب المحلات والدكاكين الصغيرة والبسطات في الحضر والريف، وهذه الفئات هي الأكثر معاناة من ويلات الحرب وتداعياتها الاقتصادية، فقد جعلتهم الحرب يكابدون حياتهم اليومية عند حد الكفاف إن لم يكن أقل من ذلك، وهذه الفئات من السكان يصبحون معتمدين على المساعدات الإنسانية التي تقدمها المنظمات الدولية،
ولمواجهة صعوبة الحياة المعيشية يكون أمام معظم فئة الشباب من الأسر الفقيرة والضعيفة خيارات صعبة إما الإنخراط في القتال مع أطراف الصراع أو الإنضمام إلى صفوف البطالة أو الهجرة خارج البلاد طلبا للرزق وتزويد إسرهم بمصادر دخل جديدة عبر التحويلات النقدية من بلد المهجر، وخلال فترة الحرب تضاعف عدد المهاجرين من الشباب إلى السعودية بحثا عن فرص العمل وتحسين مستوى الدخل، وتشير البيانات من المصادر السعودية أن عدد المغتربين اليمنيين قبل الحرب بلغ حوالي 900 ألف مغترب، وقفز هذا الرقم إلى 1.8 مليون مغترب في عام 2022،
وبالتأكيد، فإن الفئات التي تعيش اقتصاد الكفاف تكون تواقة أكثر من غيرها لتحقيق السلام والاستقرار والذي من خلاله سيتمكنوا من الخروج من حالة العوز والفقر إلى مستوى أفضل لتحسين معيشتهم وكرامتهم.
أ. د. مطهر عبد العزيز العباسي، 2-3-2024
◇ نقلاً عن صفحة الكاتب في منصة التواصل الإجتماعي - فيسبوك◇